طارق عبد الواحد طارق عبد الواحد

أنا والسينما وأبي!..

كنت في الصف الأول الإعدادي، عندما تعرفت على السينما لأول مرة. حصل ذلك عن طريق الصدفة الوطنية!. كانت صفوف مدرستنا (كما صفوف المدارس الأخرى) قد دعيت إلى المشاركة في مسيرة حاشدة من النوع الذي تعرفونه، في مدينة حمص، ذلك النوع من المسيرات الذي يُطلق عليه في وسائل الإعلام.. المسيرات العفوية لجماهير شعبنا، ورغم التحضيرات الكثيرة والتعليمات القاسية بضرورة الالتزام بخطة المسيرة.. إلا أننا – نحن الطلاب- تسربنا بعد دقائق قليلة، بعفوية كاملة، وتفرقنا زرافات زرافات، لأجد نفسي مع مجموعة من زملائي في الصف أمام.. السينما!..

وقتها، أُصبت بالإحباط فقد كنت من الذين لا يملكون نقوداً، لذلك لم أستطع الدخول. وفي اليوم التالي، كان البعض يتحدث عن الفيلم بتلك الحماسة التي تثير الغيرة، فما كان مني إلا أن تركت المدرسة، ورجعت إلى البيت، ثم تدبرت أمري، وفي الساعة الحادية عشرة كنت أمام سينما الأوبرا في حمص.

الفيلم كان هندياً، ولم يكن ذلك يعني لي شيئاً، بعد.

في الأيام التالية واظبت على ارتياد السينما، وكانت الأفلام في معظمها هندية. وفي ذلك الوقت بدأ يحدث ذلك التحول الكبير في نفسي، ذلك الانتقال الأجش..انتقال الطالب المتفوق المهتم بقراءة الدين والتاريخ (الناصع) والنوادر والشعر.. إلى الطالب الذي قرر فجأة أن يصبح بطلاً هندياً يقاوم الأشرار والظالمين ويناصر الضعفاء والفقراء. إن عبارة من قبيل: أصلح الله الأمير وأبقاه، لم تعد تعني بالنسبة لي الجرأة والحكمة، ورغم أنني واظبت على قراءة التراث دون حماسة لائقة.. إلا أن السبب كان – ببساطة- هو أنني لا أملك من النقود ما يكفي لأقطن في السينما نفسها!..

هكذا تبدلت أحلافي ومواقعي، وانتقلت من المقاعد الأمامية في الصف (المخصصة للشاطرين) إلى المقاعد الخلفية، وصادقت الكسالى والمشاغبين..

أحببت السينما كثيراً، وأحببت الهند لدرجة أنني فكرت بالسفر إليها مشياً على الأقدام طالما أنه لا يوجد معارك ها هنا، ثم على الأقل لا بد من مساعدة الأبطال..

كانت مراهقتي من النوع الصعب، من النوع الذي تكون عليه مراهقة البطل الهندي، وكان طبيعياً أن اصطدم بأبي على ذلك النحو الشائك والمعقد، وكنت كبطل هندي أميل إلى أمي التي لم تكن تساعدني على أداء الدور بشكل صحيح ومؤثر.. رغم شعري الطويل وسلسال الفضة في رقبتي!..

في تلك الأيام كبرتُ، ونضجتُ كشخص متأثر بالحكمة الهندية على الطريقة السينمائية، وهذا يعني أن نهاياتي كانت محفوفة بالمخاطر دائماً، بالموت على وجه التحديد، بكل تلك الجرعة التراجيدية الزائدة.. حيث لا بد من مواجهة المصير. وكنت أحس بذلك الشعور الغامض الذي لم أستطع ترجمته على الإطلاق، وفيما بعد.. كان علي أن أنتظر خمسة عشر عاماً قبل أن أقرأ تلك العبارة لأحدهم: من العار على المرء أن يموت موتاً طبيعياُ، ومن العار عليه أن يعجز عن دفع أحدهم لقتله!..

في تلك الأيام كبرت، وعرفت الكثير، وبدأت أفقد دهشتي!

كانت علاقتي مع أبي مستعصية على نحو غريب، واستمر الحال على هذا المنوال لسنين قادمة، علاقة كيميائية غامضة مجرد التفكير فيها يسبب الصداع.

أما علاقتي مع السينما فقد كانت وطيدة: الصورة الملونة التي تخترق الجدار والظلمة الباردة، والأبطال الذين يمضون إلى المعارك كالذاهبين إلى البحر..

في إحدى المرات، في العشرين من عمري، كنت في صالة سينما بانتظار الفيلم القادم، مبللاً بالضجر والملل من الفيلم الهندي الموشك على نهايته.

وفي لحظة ما رأيته.. أبي! كانت عيناه معلقتين على الشاشة الكبيرة. تقدم وجلس على بعد مقعدين مني، ولم يعرفني بسبب انتقاله إلى الظلمة المفاجئة، وما كان علي سوى الانسحاب إلى مقعد خلفي يمكنني من رؤيته ويحول دون رؤيتي..

لم أتابع الدقائق الأخيرة من الفيلم. كنت أتابع أبي وهو يشاهد المشاهد الأخيرة المؤثرة، حيث كان البطل يصر رغم جروحه الدامية ونزيفه القاتل على الوصول إلى المعبد النائي ليقرع الأجراس، ليخبر أمه: إنني ها هنا!. وسوف تأتي الأم وتحضن ابنها في الهزيع الأخير من الموت. المشهد كان جليلاً.. لدرجة يمكن معها سماع صوت الدموع في عيون المتفرجين..

وكان أبي، وكنت.

لعل أبي يحلم هو الآخر أن يكون بطلاً هندياً..

في جميع الأيام القادمة، حاولت بتواطؤ داخلي أن يكون أبي ذلك البطل الذي يحلمه، لكن من دون أن يغير ذلك من وصفي الذي انطبع في ذهن الآخرين.. كابن عاق.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 21:53