«زهــرة النّرجــس»: ألوان للزمن الجميل الغائب

يقدم رامي حنا في تجربته الإخراجية الثانية «زهرة النرجس» أسلوباً مبتكراً في التعامل مع الزمن الدرامي في المسلسل، تنتقل كاميرته برشاقة ملفتة بين زمنين مختلفين بكل شيء، رغم أن كل منهما يقود الآخر، تكثيف الزمن الحاضر وإيقاعه السريع، تفككه حواديت الماضي، وتبسطه للكاميرا وزمن الماضي الطويل وحلقاته المفقودة والمتباعدة تشبكها مواقف الحاضر وانفعالات شخوصه، لم نعد أمام زمن بحكايا مختلفة بقدر ما نحن داخل حكاية تحكي حكايا أخرى في أزمنة متغايرة.

تجعلنا الكاميرا غير عابئين بالسنوات التي تظهر على زاوية الشاشة مع كل انتقال من زمن لآخر في لعبة يخرج منها التاريخ خاسراً دور البطولة مكتفياً بكونه ساعة رملية تتحرك حباتها حين يريد النص قلبها من جهة لأخرى.

في حكاية نرجس (كاريس بشار) الفتاة الهاربة منذ 45 عاماً من بيت أهلها، تأتي وصية العم المتوفي في الغربة لتضعها في بؤرة الشاشة مع بدء العائلة بفتح دفاتر الماضي للبحث عن خيوط توصلهم إلى أختهم الغائبة حتى تتحقق الوصية ويحصل كلٌّ على نصيبه من الثروة.

زمن سريع، علاقات هشة وشخصيات قلقة تتبدى هشاشتها وهي تبحث عن خيط الخلاص الذي ينتشلها من أزماتها العالقة.

كاتب فاشل (عبد الهادي صباغ) زوج أخت نرجس طمعه بلا حدود، تجري ابنته وراء فرصة غنائية تقودها للوقوع في شرك محتال كبير، وابنه الحائر بين دور الأخ المتسلط ودور زير النساء ومعشوق البنات.

تترسخ بقعة الجفاء بين جواد وزوجته (قمر خلف) نتيجة استغراق جواد في البحث عن أخته.

الأخ الآخر (خالد القيش) وزوجته اللعوب (صفاء سلطان) الحالمان بالثراء والانتقال إلى مستوى اجتماعي آخر مهما كان الثمن حتى لو كان وضيعاً كوضاعة حياتهما.

تعود بنا الكاميرا إلى نقطة الصفر مع هروب نرجس في بداية الستينات ومرورها بأحداث مثيرة تجعلها صاحبة ثروة ومغنية مشهورة، يرمي القدر في طريقها نوعيات مختلفة من الناس تشكل علاقتها بهم مسيرة حياتها ومصيرها الغامض.

إيقاع مختلف للزمن يظهر مع مرور السنوات (1963 - 1972  - 1974) رغم ما تحمله من دلالات سياسية وتاريخية إلا أنها هنا متخففة من حملها هذا وتكتفي بدورها كدالة على مساحة البرزخ الفاصل بين أحداث المسلسل.

تشعر وأنت تتابع المسلسل أنك في مسرحية داخل المسلسل، مسرحية أبطالها صديق نرجس جورج (إياد أبو الشامات) تاجر المجوهرات وشاعران يتنافسان على حبها وسائق وخادمة.

تبوح تفاصيل علاقاتهم بالدفء والقسوة، دفء المشاعر وقسوة الغياب، يسقط أول الشعراء عمر خيري (رامي حنا) مع إدراكه حبه المستحيل لنرجس، نقرأ الألم في شعر رياض الصالح الحسين الذي ينطقه عمر قبل أن يؤثر الانتحار على العيش دون أمل، يختار جورج الهجرة لعله يشفى من حب نرجس الذي لم يستطع استحواذه رغم حميمية صداقته لها، لا تشغلنا خلفية الشاعر مظفر «محمد حداقي» السياسية لأننا بدأنا ندرك أن حبهما وزواجهما السرّي آيل للغياب.

هي إذاً سيرة الحب المستحيل وتفاصيل الوفاء والغياب، أغاني الشيخ إمام، وفواصل العود الحزينة وقصائد الصالح الحسين كافية لخلق مناخ ينضح بكل ما هو مفتقد ومغرق بالغياب.

يدفع التشويق لمعرفة مصير نرجس شخصيات المسلسل للانتقال بين الزمنين، برشاقة ممثل ينتقل بين مسرح وكواليسه، فنطل مع جورج وأمينة على الحاضر المتشابك العلاقات وما فيه من نفاق وخداع وأحلام مهشمة وقيم ضائعة ونعود مع جواد (نضال نجم) أخي نرجس إلى دفء الماضي وقسوته دون أن تكون هذه الاستعادة هروباً من الحاضر أو نوستالوجيا خادعة تفضي ليأس قاتل بقدر ما هي صورة لما يجري وما جرى من زوايا صغيرة مختلفة عوّدتنا الدراما السورية على تقديمها في السنوات الأخيرة بين موجات التاريخ والفنتازيا والبداوة الجديدة.

حوارات جميلة في نص خلدون قتلان سواء بلسان الحاضر أو الماضي واختيار موفق لكاريس بشار لهذا الدور لما تتمتع به من قدرات تمثيلية رائعة وتعابير وجه جميل يتطلبه دور المرأة المستحيلة الذي أدته بشكل جميل ومقنع.

موسيقى الفواصل التي قدمها طاهر ماملي خدمت كثيراً مناخ المسلسل مع العلم أنه يستحق أغنية شارة أفضل خاصة أن الصوت لميادة الحناوي.

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 23:08