فواز العاسمي فواز العاسمي

«بقعة ضوء» ووعي الرقابة البدائي

منذ صغري كنت من المولعين بالدراما، وإلى هذه اللحظة أتمنى لو أني ممن يعملون في هذا الحقل، أما سر هذا الولع الذي لا يفارقني فهو وبإيمان شديد: الحكاية، الحكاية بكل تفاصيلها وبكل ما تحمل من دهشة ومعنى وتشويق، فهي رديف فوق العادة لتجاربنا الحية في بناء الخيال وربما الوعي أيضا، ولكنها لم تصل يوما (أي الحكاية) لدرجة خلق ثورة أوانقلاب في المفاهيم، فأقصى حالات الوعي المخلّقة بدافع درامي لا تعادل ما يحدثه كتاب تنظيري في مجال السياسة أو الفلسفة أو نقد الموروث الديني أو الشعبي (العرفي)...

عموما لا يفهمنّ أحد أنني ممن يسيئون الظن أو ممن يبخسون الدراما حقها ومكانتها، ولكن هذا منطق الأشياء في البلدان التي تمارس رقابة أبوية صارمة على الحكاية والحكّائين، وبهذا المنطق نفسه أنتُزع من الجزء الأخير من «بقعة ضوء» عبر شاشتنا الفضائية الكثير من اللقطات والمشاهد على اعتبار أنني ممن يتابعون هذه السلسلة على أكثر من قناة فضائية، وهذا السلوك الرقابي يجعل المشاهد يشعر بالريبة وقلة الحيلة بالوقت نفسه، وإلا فكيف اتفق أن تُجاز الحلقات نصا ثم يحذف منها ما يحذف مشهديا.. ثم حقيقة ما هذا الرقيب الذي يفتح عيون الناس على السؤال الذي كان يمكن له أن يضيع مع أول مشهد من الحلقة اللاحقة؟؟ فللرقابة بهذا الشكل دور تحريضي يفعّل في وعي الناس قضايا تنطوي تحت مقولة (انقلاب السحر على الساحر).

«بقعة ضوء» في جزئه السادس ما زال في مختبر التجريب فقد تعاقب عليه فنانون ومخرجون كثر وان صُبغ بلونين اثنين أو ثلاثة من أهم فناني سورية، في هذا المختبر صمتوا كثيرا وتكلموا أكثر. إلى اليوم تضحكني المفارقات الحياتية التي يلتقطها كُتّابه ولا يبهرني كثيرا تناولهم أوضاعنا السياسية أو الاجتماعية أو الحكومية بحكم تنفسي مع الآخرين على وجع الأسعار الكاوية مع قليل من غلاء الحرية المعلبة، إن كتّابه الذين تخصصوا بهذا النوع من الكتابة استطاعوا الخروج ولو قليلا هذه السنة من مطب المباشرة بعدم انتقائهم أشخاصا بوظائف معينة، ومن بيئات سورية معينة، وكما أنهم ابتعدوا كثيرا عن التكرار وأكثروا من المونولوجات الداخلية للأبطال ولكنهم، في الوقت نفسه، أفقدونا حالة الدهشة التي كانت تصيبنا وهذا ناتج ربما عن الفراسة التي اكتسبها جمهور بقعة ضوء طيلة الأعوام المنصرمة والتي ساعدتهم كثيرا على توقع النهايات مع أول مشهد لبعض الحلقات.. قد يعتقد البعض أن بقعة ضوء هو عمل كوميدي بالدرجة الأولى وفي محترفه يتم رسم الضحكات والابتسامات على وجوه الناس بهدف التسلية، هذا الشيء صحيح ولكن الأصح أن بقعة ضوء هو عمل درامي بساقين من كوميديا ورأس من تراجيديا يونانية بالمعنى المجازي.

بقعة ضوء عمل قال كلاماً غير مباح، ولكن بغفلة من عيني الرقيب، لكن هذا العمل استطاع أن يوقظ الرقيب من سباته بوخزه في خاصرته هذه المرة وها هو الرقيب يرد بطعنه في صدره.. رسخ هذا العمل عندي مقولة، ربما هي قديمة، ولكنها صالحة لكل الأيام»الرقابات العربية نتاج حصري لبنية عقولنا الرثة» فبقدر امتلاكنا لخط فكري ناضج يُعلي من قيمة الناس ووجودهم ويحفظ لهم كراماتهم، بقدر ما تخف وطأة الرقابة إذ ينفعل الناس ويطلقون نكاتهم اللاذعة بعد تدهور أوضاعهم المعاشية سياسية منها واقتصادية ويتغير نمط هذه الخربشات ويخف إيلامها وحرارتها عندما يصبحون في بحبوحة من الأمن والحياة.

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 23:09