سيل الجياع الحديدي
لؤي محمد لؤي محمد

سيل الجياع الحديدي

«ينبغي أن نطالب الأديب قبل كل شيء، أن يكون صادقاً لا يهاب الحياة، بل وأن يستمد منها كل ما تحتويه من أحداث، في السيل الحديدي قليل من التخيل وكثير من صور الأحداث الحقيقية كما وقعت. لقد وضعت نصب عيني تقديم حقيقة واقعية. لكن ليس حقيقة فوتوغرافية بالطبع، إنما حقيقة جمالية» 

• ألكسندر سيرافيموفيتش

انتفض فلاحو أوكرانيا نهاية القرن الثامن عشر، وبعد كسر الانتفاضة قامت الإمبراطورية الروسية بتهجير قسم كبير منهم إلى شمال القفقاس حيث الأراضي الخالية في وادي الدون وكوبان، استصلح الفلاحون هذه البراري الخالية بمرور الزمن وتحولت إلى مزارع وبساتين وستانيتسات «قرى روسية كبيرة، وحدات إدارية» وأطلق على هؤلاء القادمين اسم القوزاق.

خلال القرن التاسع عشر، تحول قسم كبير من هؤلاء إلى ملاكين وفلاحين أغنياء. عمل عندهم لاحقاً فلاحون وعمال زراعيون فقراء، قَدِموا من مناطق بولتافا ولفوف وتشرنيهيف وكييف الأوكرانية في تقسيم طبقي جديد استمر حتى عشية ثورة أكتوبر1917.

صمود وانتصار

شارك جنود القوزاق والعمال في أحداث الثورة معاً، لكن فيما بعد نجح ضباط قدماء وملاكون سابقون في تشكيل الجيش الأبيض في هذه المناطق من القوزاق، ونصبت المشانق للبلاشفة وأحرقت السوفييتات في كل مكان مع بداية الحرب الأهلية 1918 وجرى إعدام عشرات الآلاف مع عائلاتهم.

على إثر ذلك توجه النازحون من الجيش الأحمر وعائلاتهم والمكون من أبناء بولتافا ولفوف وتشرنيهيف وكييف الأوكرانية إلى الجنوب حيث جبال القفقاس، في سيل بشري بلغ طوله مئات الفراسخ، دون طعام أو سلاح تلاحقه فصائل الجيش الأبيض والثورة المضادة. يشق طريقه في منطقة مليئة بالأعداء حيث القوزاق البيض في كل مكان بالإضافة إلى الجيش الجورجي وقوات الجنرال دينيكين الذين انقضوا على هذا السيل بكل قوة.

صمد هؤلاء الجياع في الطريق الطويل، وصدوا الهجمات المختلفة، قاتلوا بالأيادي والعصي وأدوات المطبخ. انتزعوا المدافع والسلاح من المهاجمين محطمين الجيش الأبيض في طريقهم للحاق بالقوات الرئيسية للجيش الأحمر، استطاع سيل الجياع والعراة والحفاة البشري هذا المكون من الصيادين والفلاحين والسمكريين وربات البيوت من تحطيم الجيوش المزودة بأحدث الأسلحة، يقودهم أوكراني ذو ملابس رثة وقبعة قش ممزقة.

أحداث واقعية

كتب سيرافيموفيتش روايته «السيل الحديدي» عن هذه الأحداث واستمد مادتها من أحداث واقعية جرت في الحرب الأهلية 1918-1921، مصوراً المسيرة البطولية لجيش تامان الذي اخترق حصار الأعداء، تناولت الرواية تصوير حالة جماهير فوضوية غير منصاعة ومستعدة كل لحظة لتمزيق قادتها بالحراب، مقارنة بين موقفين يتجاذبان شخوصها، أحدهما ينطلق من  الفوضى معتبراً أن الثورة لا تكتمل دون تحطيم جهاز الدولة والقضاء على كل من يعمل فيه وعلى رأسهم ضباط الجيش، فلابد من قتل جميع الضباط «الأعداء» منهم و»الأصدقاء” على حد سواء! بينما يؤكد الطرف الآخر على أهمية تنظيم الصفوف بغية الانتصار، والتمكن من خرق الحصار، منتقداً المواقف المتشددة للطرف الأول، فبدون تنظيم لا يمكن الانتصار وتحقيق الهدف المطلوب. 

أوصلت هذه الجماهير، خلال المعاناة، خلال العذاب إلى النهاية، إلى تلك اللحظة التي شعروا فيها أنهم منظمون بقوة ثورة أكتوبر 1917، واستطاعوا الانتصار بفضل هذا التنظيم، هكذا كتب سيرافيموفيتش نفسه في تعليقه على تلك الأحداث.

يعتبر الكسندر سيرافيموفيتش (1863 - 1949) أحد كلاسيكي الأدب السوفييتي ومؤسسيه .بدأ نشاطه الأدبي في تسعينات القرن التاسع عشر، وقد صور بقصصه الطويلة والقصيرة على نحو ساطع الحياة الشاقة للعمال والفلاحين. 

«نبوءة» أدبية

ربما لم يكن في  مقدور سيرافيموفيتش أن يعرف أنه كان ذا نبوءة بشكل ما عندما قرأ لتوه مخطوطة المؤلف الشاب من قرية الدون البعيدة « فيشينسكايا « في قلب روسيا . كانت المخطوطة قد وصلت الى مجلة « أوكتوبر « التي كان سيرافيموفيتش آنذاك يرأس تحريرها ، وكان سيرافيموفيتش قبل سنتين من هذا التاريخ قد شخّص في مقدمة كتاب شولوخوف الأول، وهو مجموعة قصص، الخصائص الفنية لهذه الموهبة الشابة .

وتقرر البدء بنشر الرواية ابتداء من سنة 1928 الجديدة، في عشية ذلك استقبل الكاتب في بيته بعض زملاءه، وأنزل من الرف إضبارة ضخمة من الأوراق المطبوعة على الآلة الكاتبة ووزنها في يده وقال وفي صوته نبرة انتصار .

«أصدقائي الأعزاء! أرجو أن تتذكروا هذا العنوان «الدون الهادئ» وتتذكروا اسم المؤلف ميخائيل شولوخوف.. وهذه كلمتي لكم عن قريب سيكون هذا العمل مشهوراً في روسيا كلها ، وبعد سنتين أو ثلاث في العالم أجمع !».

وهذا ما حصل بالفعل، بعد أن نشرالمجلد الأول من  رواية الدون الهادئ في نهاية 1928 ، وانتشرت على نطاق واسع، وترجمت إلى عدة لغات.

لقد قدر ليف تولستوي النتاجات الأولى لهذا الكاتب تقديراً عالياً، وحين أصبح الكاتب معروفاً قال فيه ف. كورولينكو: له لغة رائعة معبرة مختصرة وقوية ووصف غض واضح.

أما لينين فقد أكد في رسالة وجهها إلى الكاتب عام 1920: «أن الطبقة العاملة ونحن جميعاً بحاجة إلى نتاجك». ترجمت رواية السيل الحديدي إلى عدة لغات.