طارق الشرع طارق الشرع

العائلة السينمائية

تزخــــر ذاكرتي الطفولية بمناسبات مختلفة اجتهدت في التآلف معها عند مداهمتها لي بأية حجة، وقد اعتدت مع اعتيادي لهذا الاغتصاب على اقتناص ما استطعت من فرص لتجاوز صور بعض الأحداث، والتطلع نحو الأطر التاريخية التي احتضنتها وساهمت في حضورها، فكنت في كل مرة أكتشف أشكالاً لعائلات لم أعهد تكونها ولمؤسسات عظيمة كنت أجهل كيفية ترابطها.

فلم يكن مدير المدرسة الابتدائية أباً مثالياً، ولم تكن رئيسة القسم المسنة في عملي الأول أكثر من امرأة عاقر،أما جارتي فللأسف.. كانت أكثر بكثير من مجرد أخت فلم افتقدها عند مشاهدة فيلم الساحر.

كنت أذكر دائماً وجوهاً مبتسمة، وأخرى عابسة، وأطرافاً جميلة وغيرها مبتورة، ونقوش عكاز تشبه إلى حد بعيد علامة شركة عالمية وضعت على حذاء رياضي، هكذا باتت الصورة هي دليلي الدائم لأحداث الماضي، وكخزانة مقسمة بشكل منتظم، انتظمت هذه الصور في طوابير مختلفة، طوابير متفاوتة الأشكال والأحجام لكنها كانت متوافقة مع مكوناتها، حيث تستدعي الرائحة الصوت ويستقطب الطعم اللون في أحد الشوارع التي لا تذكرها أحذيتي الحديثة، بالفعل هذا ما حدث معي عندما تحولت الطوابير إلى عائلات مختلفة الملامح وانصهرت عناصر كل طابور بخليط سحري لا يتكرر وجوده  في الطوابير الأخرى وإن تشابهت في بريقها.

في حياتي تكونت عائلة بشكل مختلف في ظروف شديدة الظلمة وكانت الصورة قد خذلتني حينها للاقتراب من أفراد العائلة، ربما لأن مركز رؤيتي قد أرغم على الالتزام بأداء دور وحيد، وفي اتجاه واحد للتواصل مع الشاشة، ففي كل دار عرض سينمائية أدخلها كنت أشعر بوجود  الأشخاص ذاتهم يتبعونني من مكان لآخر.

كنت أعرف الجميع من انفعالاتهم رغم محاولاتهم المتكررة لتضليلي بتغيير مواضع جلوسهم،أو العبث في نوتات حبالهم الصوتية، فذاك الجالس في المنتصف هو الشخص نفسه الموكل إليه دائماً مهمة إشارة الشروع بالتصفيق عند ظهور البطل في لحظات حاسمة، وشاغر الكرسي الأمامي هو  الشخص ذاته الذي جلس خلفي الأسبوع الماضي في دار عرض أخرى، فأنا أعرفه من خلال تعليقاته الباردة على مواقف مؤثرة، أما هذا المتباكي دائماً (كما أسميته) فإنه يلازمني دائماً كأنه يراقبني، وأحياناً يربكني حينما يشعرني بأن منطقة الاقتراب من جلوسي توفر له الحماية من صخب بعض الحمقى الذين يرون في السخرية منطلقاً حقيقياً لمشاهدة أي عمل فني، فكان كل شيء يحيل إلى أخر داخل الصالة حتى أن رجال الأمن كانوا يحملون   المصابيح ذاتها في كل صالة لهذا كنت أعرف ملامحهم من حركة استخدامهم للمصابيح وانفعالاتهم من اللحظات التي يكتشفون فيها دخان سيجارة متسلل.

أعلم الآن بأن عائلتي السينمائية لم تكن سيئة جداً، فقد كنت أصغي في بعض اللحظات لصمت بعضهم، وأستمتع كثيراً بتعليقات آخرين، وحتى أولئك الذين وصفتهم بالحمق والقبح في بعض العروض شعرت بجدوى وجودهم فيما بعد.

فحدث أن تخلف المصفق عن الحضور في عرض حركي، وغاب المتباكي عن عرض رومانسي، ولم يحضر المهرجون لمشاهدة فيلم ممل، وكنت أشعر بالفراغ الذي خلفه غياب كل منهم، وهكذا تعودت على وجود الجميع، وتأكدت بأنني صرت جزءاً من هذه العائلة بتنوع أشكال أفرادها وتفاوت ثقافاتهم، و بالرغم من كل الاختلافات، إلا أن الجميع يمارسون عمل مشتركاً حين يشاهدون  العرض نفسه.

وقد حاولت ذات مرة التعرف على ملامح أفراد العائلة، إلا أنني وكما يبدو قد فكرت في اختراق قانونها، ذاك إن الإضاءة المفاجئة  لظلمة القاعة في نهاية العرض قد أفقدتني التركيز على تحديد مقاعد الواقفين.

■ بنغازي