محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

النُّصوصُ العربية الكُبرى في أوروبا: في توثيق «الاستغراب» الإسلامي

هل نستطيع من خلال التنقيب في الأرشيف الكتابي الذي خلفه لنا الجغرافيون والرحالة والمغامرون المسلمون في العصور الوسطى استخلاص مفهوم ما عن «استغراب» إسلامي يحمل عناصر نظرة متكاملة عن «الآخر» الغربي؟ أو بالأصح، هل يمكننا أن نجد في ذلك الأرشيف المكتوب بالعربية مكونات «جغرافيا تخيلية» تضع الآخر في موقع معرفي– تخيلي  مستمد من تصور متبلور عن «الذات» الإسلامية؟  هذا ما يحاول الباحث شمس الدين الكيلاني الإجابة عنه في كتابه «النصوص العربية الكبرى في أوروبا» الصادر عن «الهيئة العامة السورية للكتاب» من خلال استحضار ما كتبه عدد من الكتَّاب المسلمين عن أوروبا العصور الوسطى، وجمع مختارات دالة منه بين دفتي كتاب واحد، في محاولة رائدة في مجالها، وإن كان ينقصها التأسيس المفاهيمي المكثف، والقدرة على طرح الأسئلة الأكثر حساسية مع تقديم مقاربات شافية للإجابة عنها.

فبعد تكاثر التحديدات والمفردات المتعلقة بـ«الهوية» و«الأنا» و«الآخر»، وتزايد الاهتمام بقراءة الموروث الغربي الاستشراقي بكل ما قدمه من تنميطات واختزالات لصورتـ«نا»، بما يتفق مع متطلبات العقل الغربي في الإخضاع المعرفي... بعد كل هذا بات البحث عن صورة محلية للذات والآخر أنتجها عقلنا الإسلامي (قبل أن نصبح «شرقيين») ضرورة ملحة بالنسبة للبعض لتقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى التي يطرحها علينا العصر. ولعل هذا هو الهم الذي انطلق منه الكيلاني في إعداد كتابه، وإن لم يشر إلى ذلك بوضوح،  فإلى أية درجة نجح في إيجاد تلك الصورة المفقودة؟

يبدأ الباحث بتقديم تصورات مختصرة للأطر المرجعية للمعرفة العربية عن أوروبا، فيرى أنها تقوم أساساً على المعيارين الديني والحضاري، فالإسلام بتحديداته أعطى معايير واضحة للنظرة إلى الآخر، في حين أدى تطور السياق الحضاري الإسلامي إلى إكساب المسلمين مفاهيم حضارية لتقييم الآخر على أساس مدى ارتقائه في سلم «العمران»، وفق المصطلح العربي الإسلامي القديم. هكذا كانت «الملة» و«العمران» محددين أساسيين لتصور إسلامي واضح عن الذات... ذات تقبل التعددية والتنوع في داخلها، ولا تقيم حواجز نهائية مع الآخر الذي هو مشروع محتمل للإدماج في هذه الذات التعددية، فمفهوم السيطرة والإخضاع الإسلامي لا يقوم على محو الآخر أو استلابه، بقدر ما يقوم على إدماجه في بنية حضارية قابلة للتوسع والإغناء بحكم منطقها التأسيسي نفسه، فهذه الحضارة التي ارتبطت بدولة توسعية فاتحة كانت تغتني ثقافياً مع كل فتح جديد، وكانت قادرة على استيعاب كل مؤثر خارجي بفضل تنوعها الذي ارتبط بالتنوع الجغرافي والثقافي والإنساني الكبير الذي حوته دولتها العظمى... فإذا كان الآخر يرفض دخول «ملتنا» فيمكننا أن نتسامح مع «ملته» بشروط، كما يمكننا أن نستفيد من «عمرانه» لتطوير «عمراننا».

إذا كان تحديد مفهوم الذات الإسلامية ممكناً، فإن الوصول إلى مفهوم واضح لـ«استغراب» إسلامي يبدو أكثر صعوبة وتعقيداً، فلا يمكننا بشكل ميكانيكي أن نركب على تصور الذات الذي حددناه تصوراً مفترضاً للآخر، ولدى تفحص النصوص «الاستغرابية» التي اختارها الكاتب نجد أن النظرة إلى الآخر لدى المسلمين قد اختلفت بحسب مدى قرب أو بعد هذا الآخر عن «ديار الإسلام»، والعلاقات التي قامت بينه وبين المسلمين سلماً وحرباً، فالنصوص المسلية التي كتبها ابن فضلان مثلاً عن شعوب الشمال البعيد تختلف جوهرياً عن التقرير الذي كتبه هارون بن يحيى عن سفارته إلى القسطنطينية عاصمة «الروم»، والمعلومات التي أوردها يحيى بن حسن البكري (الغزال) عن مهمته في بلاد الروم نجد فيها من الدقة والصرامة ما لا نجده في المغامرات الشيقة التي دونها الغزال نفسه  عن زيارته لبلاد النورمانديين البعيدة.

هنا نجد تصورين عن الآخر: الآخر النقيض الذي ينتصب بمواجه ديار الإسلام ويناصبها العداء الشديد، والآخر البعيد الذي تصلح أخباره وغرائبه لجلسات التسلية والأنس، وقد رسم المسلمون للأول صورة متخيلة تظهره نقيضاً نصرانياً مناهضاً لتطلعات الإسلام العالمية، وإن كان هذا لم يمنعهم من التلميح عن إعجابهم المبطن بهذا العدو الصامد العنيد، وتقديرهم لعمرانه وثقافته، هكذا تظهر لنا القسطنطينية وعموم بلاد الروم (البيزنطيين) بلاداً عامرة بالكنائس الكبرى التي لا يمكن إحصاء عددها، يحكمها قيصر عظيم، ويتميز رجالها بشدة البأس والشجاعة... إنها صورة متخيلة لا تستهدف إخضاع العدو أو تنميطه معرفياً بقدر ما تسعى إلى تقريبه إلى مدارك المسلمين بوصفه «النقيض» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ في المتخيل الإسلامي... أما الآخر البعيد فهو «المختلف» البربري، القصي عن أسباب الحضارة والعمران، والذي لا تصلح أخباره إلا للفصول الهامشية الملحقة بكتب الجغرافيا العامة، أو مادة للنوادر الطريفة التي يسعى الرحالة والمغامرون إلى جمعها في مدوناتهم.

لا يمكننا إذاً  أن نتحدث عن «غرب» مختزل ومنمط شبيه بـ«الشرق» الذي قدمه لنا المستشرقون، ولا عن خصائص جوهرية ثابتة لهذا الغرب، فالمسلمون لم يشكلوا تقليداً معرفياً ثابتاً عن أوروبا تدعمه أوليات خطاب متماسك، ومؤسسات بحثية مترسخة لا يستطيع أي كاتب تجاوز سلطتها الضاغطة، وحتى بعد الغزو الصليبي للمشرق (وهو النقطة التي يتخذها الكيلاني لتقسيم مختاراته إلى نصوص ما قبل الغزو الصليبي، ونصوص ما بعده) لم يراكم المسلمون مثل ذلك التقليد المعرفي، فلم تختلف صورة «الفرنجة» كثيراً عن صورة «الروم» وإن استجد عليها الكثير من الكراهية والاشمئزاز نتيجة لجرائم الصليبيين الكبرى بحق المسلمين (وهذه الصورة التي يختلط فيها الإعجاب بالكراهية نجدها بوضوح لدى أسامة بن منقذ حاكم شيزر الذي كان على اتصال وثيق بالصليبيين).

احتل «الاستغراب» الإسلامي إذاً مواقع هامشية في منظومة المعرفة الإسلامية، ولا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بالاستشراق الغربي الحديث،  فهو لم يتحول إلى مؤسسة معرفية مترسخة مرتبطة عضوياً بطموحات السيطرة والهيمنة، وفي أحسن الأحوال يمكن مقارنته بالتصورات عن الشرقيين و«البرابرة» التي نجدها في تاريخ هيرودوت أو مسرحية «الفُرس» لأسخيلوس، ولذلك لا يمكن التأسيس عليه لصياغة نظرتنا المعاصرة عن الذات و«الآخر» (في حال كنا من أنصار تأسيس نظرة مضادة  للنظرة الاستشراقية) كما فعل رفاعة الطهطاوي رائد النهضة العربية في كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» عندما قال: «رأيت في الغرب إسلاماً ولم أر مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين ولم أر إسلاماً»!!