بين قوسين: الزمن السوري

حفظ السوريون عن ظهر قلب الكثير من الحكم والأقوال المأثورة عن أهمية الوقت، تعلموا منذ طفولتهم المقتضبة أنه سيف قاطع وسريع غادر، وردد المتعلمون منهم مع معلميهم «ظروف الزمان» الجميلة: قبل، وبعد، وحين، وأثناء، وخلال... ووضعوا الكثير منها في جمل مفيدة حالمة، لكن ذلك لم يتح لهم أن يفعلوا الكثير في أعمارهم القصيرة، التي راحت تتحكم بها «ظروف واقعية» خارجة حتى الآن، عن إرادتهم.

وعلى الرغم من أن الدخول في تفاصيل الـ«ظروف واقعية» التي ما تزال تعيق أي إمكانية لاستفادة السوريين من الوقت، يحمل الكثير من الشجون، ويدفع مباشرة لتقصّي طبيعة العلاقة بين مهندسي الزمن المحليين وبين المحكومين بأمرهم، إلا أنّ أوان ذلك قد آن، وأي تراخٍ في هذا الشأن قد يجعلنا أفراداً وشعباً ودولة نخسر كل فرصة قريبة لنتجاوز بقاءنا على هامش الفعل.. والزمن.

لقد اعتاد واضعو الخطط والسياسات والمناهج والتكتيكات والاستراتيجيات في بلدنا طوال عقود، على زجّ الشعارات الكبرى في واجهة أي مشروع أو نشاط أو إجراء لإعطائه الحصانة والشرعية والصفة الوطنية وقطع الطريق على أي احتمال للجدل فيه، وغالباً ما كان ذلك يتم دون ذكر الأجل الزمني لتحقيق الهدف المعلن، وبالتالي إبقاؤه مفتوحاً أو فضفاضاً، تجنّباً لأي احتمال بالمساءلة عنه أو المحاسبة الشعبية اللاحقة عليه من جهة، وإطالة فترة «استفادة البعض» منه واستنزافه عبر الفساد المنظم من جهة أخرى، وقد طال هذا المستوى من التفكير والأداء والتغافل عن الزمن معظم المشاريع العامة من مصانع وسدود وجسور ومشاريع سكنية وخدمية (والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى)، كما طال أيضاً الكثير من الإجراءات والتشريعات والقوانين والمواقف الرسمية المختلفة، الأمر الذي انعكس بصورة مباشرة على الناس، على أحلامهم ووعيهم وسلوكهم وعملهم وعلاقاتهم فيما بينهم وثقتهم بأولي الأمر، دون أن يكون لديهم أي حق في الاعتراض أو التعبير عن الاستياء وإلا سيعرّضون أنفسهم لتهمٍ قد تصل إلى حد الخيانة العظمى.

ومؤخراً، أخذ هذا التلاعب بالزمن بصفته بعداً رابعاً ووعاءً وشاهداً صامتاً، شكلاً جديداً بعد التحول الكامل نحو الليبرالية الاقتصادية، إذ أصبح الزمن نفسه متاحاً للعبث، وأصبحت الثانية تُعامل معاملة الدقيقة كما هي الحال في حسابات ليبراليّي الخليوي الجدد، والدقيقة تُعامل معاملة الساعة كما يجري في حسابات مستثمري هوامش الشوارع، والساعة تُعامل معاملة يوم العمل كما في حسابات الحكومة..  وهكذا.. ولكن بقي الناس غير قادرين على الاعتراض أو التعبير عن الاستياء..

وعلى الرغم من كل هذا العبث ما تزال محاولات التعمية على أشدّها، وما يزال سادة الوقت يلجؤون إلى الماضي للمبالغة في تعداد إنجازاتهم التي لم يمتلكوا يوماً أية إرادة لتحقيق الكثير منها، أو التسويف بما «سـ»ـيفعلونه لاحقاً كلما قلّل أحد من قيمة ما قدّموه.. بينما يظل الخطاب الراهن خالياً من أي كلمة عن الحاضر، رغم أن احتقان من فاتهم الكثير من الزمن والحلم قد أوشك على الانفجار.

في هذا الزمن، ما تزال الساعات تسير ببطء على الفقراء والشرفاء بينما أعمارهم تنقضي بسرعة، وما تزال الشهور والفصول والسنوات تمر مجدبة قاحلة على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وما يزال الجولان محتلاً منذ أربعة عقود ونصف، وما يزال قانون الطوارئ مهيمناً منذ نحو خمسين عاماً، وما يزال الزمن يعني لمن استطاعوا أن يصبحوا عمالاً وموظفين قبل مرحلة «اقتصاد السوق الاجتماعي»، ساعة الاستيقاظ وساعة الانتهاء من العمل اليومي والموعد الشهري لقبض الراتب الشحيح الذي سيتبدد في أيام قليلة.. وتستمر المهزلة، مع أن الزمن تغير، والمناخ تغير، ووعي الناس تغير، وبإمكان سورية التي لم تكسب شيئاً من زمن المد الثوري، ومن زمن التطور اللارأسمالي، ومن زمن الأمطار الوفيرة، ومن زمن الديمقراطية العابر، أن تتحول إلى قائد للشعوب العربية الثائرة إن امتلكت إرادة الثوريين، وآمنت أن ثالوث المقاومة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، هو حزمة واحدة مترابطة عضوياً.. لا مصداقية، ولا مستقبل لكل من يفصل بينها بحجة أن الوقت ما يزال غير مناسب..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.