مدحت باشا بين مُسلسليْن
منار ديب منار ديب

مدحت باشا بين مُسلسليْن

مدحت باشا الصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية) المصلح ووالي الشام الذي يحمل أكبر شوارع دمشق القديمة اسمه، ظهر في مسلسلين تلفزيونيين هما «سقوط الخلافة» و«أبو خليل القباني» بصورتين مختلفتين ليس أن الذي لعب الدور في الأول هو جهاد سعد مع شاربين معقوفين وبدلة حديثة وربطة عنق، والذي لعب الدور في الثاني نجاح سفكوني مع لحية كثة وسترة مطرزة، فإذا كان «سقوط الخلافة» للكاتب المصري يسري الجندي والمخرج الأردني محمد عزيزية يصور مرحلة تولي مدحت باشا للوزارة بينما يقدم «أبو خليل القباني» للكاتب خيري الذهبي والمخرجة إيناس حقي مدحت باشا والي الشام فإن هذا ليس هو الفرق.

يأتي إنتاج عمل كـ «سقوط الخلافة» في سياق الصورة الجديدة لتركيا المعتبرة وريثة الدولة العلية في العالم العربي، وفي سياق إعادة الاعتبار إلى السلطان عبد الحميد الذي لم يعد مقترناً بالاستبداد حتى شاعت عبارة الاستبداد الحميدي وفي عهده كتب الكواكبي كتابه الشهير بل يجري التذكير باستمرار بموقفه الرافض من عرض الحركة الصهيونية (شراء) فلسطين من العثمانيين مقابل أموال طائلة. وكأن الباب العالي يملك القدرة على بيع بلد (وأي بلد) رغم خضوعه لسيطرته السياسية. لكن الصورة الناصعة لعبد الحميد هي نتاج تفكير سياسي يغلّب موقف الحكم من الأطماع الأجنبية على الأداء السياسي لهذا الحكم في الداخل، لذلك ليس من المفاجئ أن كاتب مسلسل «سقوط الخلافة» ناصري، ورغم محورية المشروع الناصري في التاريخ العربي الحديث وأهميته التحررية، إلا أن هذا المشروع فقير نظرياً وفكرياً، وإذا اعتبرنا الناصرية إحدى تنويعات القومية العربية، فلا يمكن مقارنه الثراء الفكري لمنظري العروبة في بلاد الشام مع شعبوية ورثة الناصرية في مصر واختلاط مصادر مختلفة إسلاموية وشرقية في تفكيرهم، هكذا سيصل يسري الجندي في مسلسله إلى أن مدحت باشا يهودي (وانحداره من أصول يهودية إذا ثبت ليس مجالاً لتوجيه شتيمة عنصرية) وسنرى مشاهد طريفة لزعماء يهود الدونمة الذين سيصيرون الاتحاد والترقي مجتمعين على ضوء الشموع مع عناصر ماسونية! أيضاً يخططون ويتآمرون لتقويض دولة الخلافة المقوضة أصلاً، وهم يعتبرون مدحت باشا ابنهم البار، والذي أوصل إلى هذه الصورة للباشا الإصلاحي هو أفكاره الحديثة الغربية أساساً وبالتالي الأجنبية والأجنبي لا يرتبط إلا بالشر لدى أصحاب تفكير مقاوم إلى درجة المغالاة، ولأن طروحات كالدستور والديمقراطية تعني تقليص سلطة مستبد يفترض أنه عادل فإن رجلاً طليعياً كمدحت باشا يتحول إلى عدو. قبل سنوات أعادت دار البعث طبع كتاب قديم لقدري قلعجي عن مدحت باشا وهو يقدمه بصورة المصلح والثائر على الاستبداد و«أبو الدستور» وإعادة النشر الاحتفائية التي كانت ممكنة قبل سنوات، حل محلها اليوم مسلسل يعرض على قنوات عربية مهمة ويحمل طروحات مناقضة تمر دون أن يتوقف عندها أحد.

مسلسل «أبو خليل القباني» وإن كان حضور شخصية مدحت باشا فيه أقل، إلا أنه يقدم صورة أخرى، وهي صورة موثقة وآثارها باقية عن الوالي الذي دعم عمل رائد المسرح العربي أحمد أبو خليل القباني في وجه القوى المحافظة في المجتمع الدمشقي، فالوالي المتحضر أدرك أن المسرح هو أحد الأدوات التنويرية في مجتمع تغلب عليه الأمية، كما اهتم الرجل بالمدارس والحقل التربوي والتعليمي، وإذا كانت السيرة التركية للباشا قد تكون موضع خلاف في مرحلة كانت تمور بتيارات سياسية متباينة وتتعرض فيها الدولة لضغوط مختلفة، فإن سيرته الشامية التي عرفتها مدينتنا حملت أيادٍي بيضاء لها، مع التأكيد أن مدحت كان جزءاً من دولة احتلال مثلما سلطانه عبد الحميد لا دولة خلافة كما يقترح الحنين المرضي لبعض الدراويش.