السخرية عند شعراء الرومان
حسام زيدان حسام زيدان

السخرية عند شعراء الرومان

تميز النتاج الأدبي للشعوب بأساليب مختلفة للتعبير عن الذات الإنسانية، وكانت السخرية أحد أهم حالات تصوير الواقع وانتقاده، فكان اليونان قد نشطوا في مجال المسرح الكوميدي، أما الرومان فاشتهروا بفن القصائد الساخرة، وكان يطلق عليها اسم «ساتوراsatura »، حيث كان هذا الفن أقرب لمزاجهم العام وطبيعتهم الخاصة .

أبدع الرومان من خلال هذا الفن الأدبي الكثير من الروائع، و تنافس في صناعته الكثير من كبار شعرائهم بانتقاد الواقع الاجتماعي السائد في ذاك العصر، وخلقوا من الساتورا باباً واسعاً، ومرحلة خصبة تشكلت فيها أروع ما كتب بالأدب الروماني القديم.

إن الساتورا تحتاج من الشاعر أن يتمتع بدقة ملاحظة عالية وسرعة بديهة وروح الفكاهة، وأن لا يفتقر إلى اللباقة في التعبير، ويأتي الشعور بالسخط والنقمة من أهم مقومات شاعر الساتورا، فلا يترك أي سلبية من السلبيات المتعلقة بالأخلاق والسلوكيات السائدة في المنظومة الاجتماعية في عصر الرومان إلا وتناولها، وأطلقوا ألسنتهم كالسياط بلغة نارية تفتقد للدبلوماسية، وكانوا يحاولون أن ينبهوا إلى فداحة ما أصاب  الكيان الاجتماعي للواقع الروماني، وما يلحقه من تهديد لكينونته، من خلال مهاجمة الانحراف بين أفراد المجتمع بكافة طبقاته. ولم يستطع اليونان أن ينافسوا الرومان في هذا المجال، فقد تفرد الرومان في هذا الفن الإبداعي وسلكوا به دروباً مختلفة عن المسرح الكوميدي اليوناني، ومنحوا الساتورا طابعاً رومانياً مميزاً، و من أشهر أقلام الرومان في فن الساتورا كان «إنيوس»، الذي كانت تعني الساتورا عنده الخليط سواء أكان في الشكل أو في المضمون بين الشعر والنثر، وتظهر السخرية في كثير من شذراته كواحد من عناصر أخرى كثيرة تميز إبداعه، وجاء بعده «لوكيليوس» في القرن القاني قبل الميلاد، التي كانت تعني عنده الساتورا الخليط لكن على مستوى الشكل، وظهرت عنده أول ملامح النقد، وهو يرسخ قواعد هذا الفن ويؤكد ملامحه، وتتميز لغة لوكيليوس بالقوة الكبيرة والحيوية المفرطة، رغم أنه أساء استخدام الكثير من التعابير، ضمن فكرة أنه يريد أن يكون صافياً في لغته، فكتب باللغة المحكية «لغة الشارع» وكتب بلغة الجنود القاسية، وكان مبرره أن لغة الساتورا تتسم بالخشونة أحياناً وباستخدامها التعابير الفاحشة أحياناً أخرى، كي لا يقلل شاعر الساتورا من القيمة الهجائية لما يكتب.

وحذا الكثير من الشعراء الرومان حذو لوكيليوس، ولم يتورع الشاعر الروماني المهذب هوراتيوس عن تقليد لوكيليوس في الكثير من قصائده الهجائية، لأنه لم يستطع أن يتخلى عن السمة الجوهرية في شعر الساتورا وهي خشونة التعابير واللغة النقدية. ورغم ذلك لم يضع الرومان لوكيليوس في مكانة متقدمة في تأريخهم عن هوراتيوس، بل في صدارة الشعراء أجمعين، حيث استخدم  أوزاناً شعرية متنوعة منها السداسي والسباعي والتروخي، ليكون أول شاعر ساخر يستخدم كل الأوزان الشعرية، وأكثر من استخدام الوزن السداسي الذي أصبح فيما بعد بوزن الشعر الساخر.

وتميز شعر لوكيليوس بسلاسة التنقل بين المواضيع رغم أن الكثير من النقاد أتهم لوكيليوس بعدم الانسجام لكثرة تنقله بين المواضيع، وإرخائه على قصائده طابع البساطة، وصبغت قصائده بالتهكم اللاذع وأقوال الحكمة الباسمة ضمن وعظ فلسفي لمتجول في شوارع روما، ليضع لوكيليوس الذي كان في الأصل جندياً هدفاً بين عينيه، وهو تثقيف الشارع وتعليمه.

ونلاحظ في شعر لوكيليوس الاعتزاز الكبير بالثقافة الرومانية، رغم حالة التواصل الشديد مع اليونان الذين تركوا أثراً في شتى العلوم والفنون في مختلف الحضارات، إلا أن شعاره لا يمكن مقارنتها بأشعار أرخيليوخوس، وتختلف اختلافاً جذرياً عن كوكيديات يوبولوس وأريستوفانيس، مع العلم أنهما من أهم مصارد لوكيليوس كما زعم هوراتيوس، إلا أن كوميديات أرستوفانيس كانت عبارة عن مسرحيات خيالية، منظومة شعراً وتحلق في فضاء أخر، وكثيرأ ما كان يتخللها الرقص و الموسيقى، أما أشعار لوكيليوس فكانت أشعاراً درامية نظمت لتقرأ رغم احتوائها على حوار مفعم بالحيوية والتراكيب البسيطة والمفهومة، و اختلفت أشعار لوكيليوس عن مسرحيات أريستوفانيس بأنها عالجت شخصيات حقيقية ومعاصرين للشاعر لوكيليوس لكن بروح الناقد الساخر، ولم يكن يقصد هجاء شخص بل الإصلاح بمنظومة اجتماعية وسياسية.

ومع التطور الزمني تداخل النثر والشعر في الفن الساتورا، حيث خرجت أعمال مركبة بين النثر والشعر سميت بالساتورا المينبيية، و برع فيها عدد كبير من أدباء الرومان مثل سينيكا، وتعتبر رواية بترونيوس الاجتماعية التي وصلت إلينا تحت عنوان «ساتيريكون» عملاً نوعياً ورائداً في مجال الرواية الاجتماعية الناقدة والساخرة، وكان من أهم أدباء الرومان.