اقتباسات

اقتباسات

قرار..

كنت أحس بقوى النهر الهدامة تشدني إلى أسفل وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ الجنوبي في زاوية منحنية. لن أستطيع أن أحفظ توازني مدة طويلة. إن عاجلاً أو آجلاً ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسراباً من القطا متجهة شمالاً. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟ وأحسست أنني استسلم لقوى النهر الهدامة. أحسست بساقي تجران بقية جسمي إلى أسفل. في لحظة لا أدري، هل طالت أم قصرت تحول دوي النهر إلى ضوضاء مجلجلة، وفي اللحظة عينها لمع ضوء حاد كأنه لمع برق . ثم ساد السكون والظلام فترة لا أعلم طولها، بعدها لمحت السماء تبعد وتقرب والشاطئ يعلو ويهبط. وأحسست فجأة برغبة جارفة إلى سيجارة. لم تكن مجرد رغبة، كانت جوعاً، كانت ظمأ، وقد كانت تلك لحظة اليقظة من الكابوس، استقرت السماء واستقر الشاطئ.. وسمعت طقطقة مكنة الماء، وأحسست ببرودة الماء في جسمي. كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر.. إنني طاف فوق الماء، ولكنني لست جزءاً منه فكرت أنني إذا مت، في تلك اللحظة، فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي. طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن.. إنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت
ممكن ولأن علي واجبات يجب أن أؤديها...

• من كتاب «موسم الهجرة إلى الشمال» الطيب صالح


فنان مبدع..

وليس إنسان العصر الحالي، بحالته المنفلشة، ما كان يثير اهتمامي وقلقي، بل ــ وهذا قبل أي شيء آخر ــ إنسان المستقبل في حالة التكون المنظم والواعد.
وكنت أرى، دائماً، أن فنان اليوم المبدع إذا قام بالتعبير عن أعمق توجساته الداخلية تعبيراً صادقاً ومتكاملاً فإنه، بعمله هذا، يساعد إنسان المستقبل على أن يولد قبل ساعة من موعده وأن يكون هذا الإنسان أكثر قرباً من الكمال.
لهذا ظللت، بوضوح متزايد، أقدس مسؤولية الفنان المبدع. وكنت أقول لنفسي إن الحقيقة لا توجد مستقلة عن الإنسان كاملة وجاهزة. بل هي تأتي بالتعاون مع الإنسان وبفضل مشاركته وهذه الحقيقة نسبية حسب قيمة الإنسان.
وحين تفتح، بالكتابة أو بالعمل، مجرى نهر، فإن الحقيقة تجري فيه وتتخذ مساراً لم تكن لتتخذه لولا تدخلنا ومساهمتنا. ونحن بالطبع لا نتحمل المسؤولية الكاملة. إلا أننا، بالتأكيد، نتحمل قسطاً كبيراً من هذه المسؤولية.
ربما كانت الكتابة لعباً في عصور أخرى: أيام التوازن والانسجام. لكنها اليوم مهمة جسيمة. لم يعد الغرض منها تسلية العقول بالقصص الخرافية أو مساعدة هذه العقول على النسيان. بل الغرض منها تحقيق حالة من التوحد بين كل القوى الوضاءة التي ما تزال قادرة على الحياة حتى أيامنا الانتقالية هذه. والغرض، أيضاً، تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده، لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه.

• من كتاب «تقرير إلى غريكو» لنيكولاس كازانتزاكي