جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

الدروب الوعرة.. والمآلات المظلمة!

الدروب الوعرة التي سلكها النظام في تعامله مع الحركة الاحتجاجية الشعبية منذ تفجرّها، أنتجت في ما أنتجت، مجموعة متعددة ومتنوعة من «دروب وعرة» تابعة، مجازية أو ميدانية، راحت تملأ الخارطة السياسية – الاجتماعية للبلاد بعدد كبير من الخطوط الداخلية المتعرجة، القابلة للزيادة على خلفية تفاقم وتناسخ الفرز الوهمي، والقابلة في الوقت نفسه للتقطع مؤقتاًأو... نهائياً على إيقاع الدم!.

رؤية هذه «الدروب الوعرة» أو الإحساس بوجودها أو ملامسة تعرجاتها وعوسجها، ليست حكراً على أحد دون الآخر، أو جهة دون سواها، أو شريحة دون شريحة، بل إنها أمست كالقيظ الحارق أو البرد القارس، تخترق عظام كل مواطن سوري وتقض مضجعه وتقلق يقظته ومنامه.. إنها تلك المسافة القصيرة، ولكن القصية، التي باتت تفصل - دون تعميم - الجار عن جارهالمختلف رأياً أو منطقة أو أصولاً، وتزرع المسامير بين الزوج والزوجة في بعض الأحيان، وبين الأعمام والأخوال وأولاد كل منهم، وبين زملاء المدرسة الواحدة والكلية الواحدة والمؤسسة الواحدة..

الآن، ثمة دروب وعرة، وعرة جداً، بين من يجب أن يكونوا حلفاء وليسوا أعداء.. أصحاب قضية واحدة، وطنية وطبقية، وليسوا طرفين متناحرين تعمي كل منهما عصبيات أو أوهام أو أوامر لن تقدم لكليهما إلا المزيد من الانسحاق والفقر والألم والمهانة والمجهول المخيف.. هؤلاء الآن، وهم غالبية الشعب المهدد بألا يبقى واحداً، يتمترس كل منهم في الجهة التي ستوديبهم جميعاً إلى عبودية كاملة!.

الدروب الوعرة هي الآن عنوان كل نقاش يشبه المعركة بين «مؤيد» و«معارض»، وهنا لا فرق بين متعلم وأمي، ومثقف وجاهل، ومنتمٍ وغير منتمٍ، وكبير وصغير.. فالجميع إلا ما ندر، يتعامل مع الآخر على أنه عدو، أو أنه بالحد الأدنى أحمق وطائفي، أو انتهازي وعميل، كما أنه لا فرق إن كان هذا النقاش/ العراك، في مقهى أو في شارع أو على شاشة إحدى المحطات..وأجزم هنا أن لا أحد من المتناقشين المتعاركين يسمع الآخر، وكل منهما يظن أن الغلبة لمن يصرخ أكثر!.

وهناك دروب وعرة، متعرجة وطويلة ومليئة بالمخاطر، تفصل عدداً من المحافظات بعضها عن بعض، فالطريق بين ريف حماة الغربي – حمص مثلاً، لم يعد يستغرق نصف ساعة كما كان قبل عهد قريب، بل صار يتطلب من ساعة ونصف إلى ساعتين، حسب مزاج الحواجز الأمنية، والحواجز الطائفية، المقيمة أو «الطيّارة»، التي يمكن أن يكون المرور عبرها آخر عمل يقومبه مواطن بسيط لا ناقة له ولا جمل في الاصطفافات العمياء الجارية في البلاد حتى الآن.. وهذا الأمر يحدث ما يوازيه أو يزيد في بعض مناطق طرطوس ودير الزور وحلب وإدلب واللاذقية.. وربما – إذا ما استمر الحال على المنوال ذاته- يمتد هذا الجنون الدموي ليشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها..

الدروب بين النظام، أو بالأحرى، المتسلطون عليه، وبين ما عداهم، كلها وعرة، لا درب مفتوحاً واضح المآل بصورة حقيقية مع الناس، أو مع الحركة الاحتجاجية، أو مع قوى المعارضة الوطنية.. بينما الأزمة تكبر وتكبر، وتوشك أن تلتهم البلاد بنظامها وشعبها وجيشها وأمنها وحدودها ونسيجها ومستقبلها كدولة موحدة..

الدروب الوعرة، الجغرافية والسياسية والاجتماعية، تزداد وعورة، والقادرون على إعادة تعبيدها وإزالة الركام من جنباتها ما يزالون في احتراب أعمى لا يدرك أي منهم يقيناً من يزكي أواره، والسبب هنا مشكلة حقيقية في الوعي والبصيرة، تفسح المجال لأوهام كبرى في تحديد معنى الانتماء ومعنى الآخر ومعنى السلطة ومعنى الوطن ومعنى العدو... ومعنى الحياة..

الدروب الوعرة، ثمة من يصنعها من الخارج ويدفع باتجاهها، وهو الوحيد الذي يعلم ماهيتها، بينما من يعتمدها تسلطاً وصلفاً، ومن يقع بها مرغماً أو مخدوعاً، ومن يتوه في متاهاتها جاهلاً أو متهوراً أو حالماً واهماً، ومن لم يكن يريد هذا المصير البائس وإنما نقيضه الكامل، هم جميعاً في النهاية وقود المحرقة الرأسمالية الكبرى التي تبحث عن نجاة مؤقتة بعد أن بات أمرنهايتها حتمياً.. ولكنها تأبى أن تموت قبل أن تغرق العالم بالدم والفوضى..