شيوخ «الفرنك»

شيوخ «الفرنك»

لفّ «أبو احمد» سجادة الصلاة بعناية ونهض بروية من الأرض، التفت إلي باسماً وأقبل مرحّباً ضاحكاً كعادته، شد على يدي بحزم ودعاني للجلوس، دخلت «أم أحمد» مسرعة بكأس الشاي الفاخر الذي أحب، وتحلق الاثنان حولي بسعادة يسألون عن الأهل والعمل وآخر الاخبار

هم ليسوا جيراناً اعتياديين، هم جزء من العائلة بالفعل، اذكرهم مذ كنت طفلاً، فقد تربينا سوية وخالتي «أم أحمد» معنا في كل وقت، حتى بعد وفاة «أحمد» المفاجئة منذ زمن، ومازالت «أم احمد» تغمرني بكلمات الترحيب كلما رأتني وهي تسرح شعري ضاحكة «بسم الله.. ما شاء الله عليك.. الله يخليك لأمك..» حتى تظهر حمرة الخجل علي فينقذني «أبو أحمد» بالقول «حلي عن الولد.. خلينا نعرف نحكيه كلمة».. فترد عليه على الفور بصوت جاد «مارح حل عنو لجوزو أحلى بنت بالشام»، عندها أتلعثم أنا ويضحك الاثنان على الفور.
للرجل مكانة خاصة في قلبي، لم أكن قادراً على الاكتفاء من أحاديثه الممتعة، يغوص «أبو أحمد» في ما مضى عليه من السنوات مستذكراً العجيب والممتع فتمر الساعات علينا دون أن نشعر، على الجدار صورة مدهشة له بالعباءة والكوفية الحمراء قرب العديد من الضباط السوريين أثناء حرب تشرين، يحوي في درج خزانته العديد من التذكارات عن أسفاره في العراق وتركيا، لم ينه الرجل تعليمه الابتدائي لكنه انطلق لرؤية العالم منذ طفولته فعاد بزاد لا ينتهي من القصص، تذهلني دوماً بصيرته النافذة وحسن اطلاعه، أعلم بأنه لم يقرأ كتاباً ولكنه يأخذني بكلماته البسيطة في رحلات ساحرة ويقص لي عن البلاد وما تغير فيها في حسرة تراها واضحة في صوته وتجاعيد جبينه، نعرج على ما استجد من أوضاع البلاد ليبدأ بالحديث عما سمعه اليوم من التلفاز، تؤلمه المشاهد، يستعوذ بالله ويضرب حبات مسبحته بعصبية، ثم يلتفت إلي ويقول «خربو البلد..»، قد تخونه الكلمات في بعض الأوقات، وله ملاحظاته على جميع وجوه الشاشة، لكنه واضح حازم إن تعلق الأمر بظلم ومكروه وقع على الناس أو البلاد، «يزن عقل هذا الإنسان عقول الكثيرين من مدعي العلم والثقافة اليوم وهو تقريباً.. شبه أميّ»، استذكر ملياً عندما استوقف إمام الجامع في حارتنا منذ زمن بعيد، انتقد وقتها بنزق جمع الأموال لتوسيع بناء الجامع بدلاً من إصلاح سقف المدرسة الابتدائية، وقف في وجهه الجميع وقتها، حتى أن زوجته تعجبت من تصرفه هذا وقتها وقالت له باستعطاف: «خاف ربك يا زلمة.. شيخنا معو حق.. وانت ابن شيخ» لكنه نهرها وقال: «يا خديجة هدول مو شيوخ الله .. هدول شيوخ الفرنك»!!
ربما يطول الحديث عن الرجل، فهو واحد من كثيرين قامت بهمتهم هذه البلاد، هجره معظم أصدقائه من المتخندقين، ولم يبق أحد منهم ليستمع إلى أحاديثه وآرائه كما في السابق، كلامه لا يعجب أحداً الآن..! ينظر الجميع شزراً إلى ذقنه الخشنة وتجاعيد وجهه القاسية، مطلقين ما شاؤوا من أحكام دون أن يجلس معه أحد.
توارى «أبو أحمد» وأمثاله بين أصوات المدافع وزعيق المتطرفين يصرخ وحيداً أمام التلفاز.  وينهمك بسرد قائمة الخسارات من الطرفين.