جردة آخر السنة

جردة آخر السنة

مع اقتراب الشهر الأخير في السنة من نهايته، تبدأ أعمال «الجرد» على كل الأصعدة، يخرج الجميع «آلاتهم الحاسبة» ويفتحون «الأرشيف» الضخم الذي جمعوه، يبدؤون بعمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب، محصين الخسائر والمكاسب. كما لو أن تعاقب الفصول والدورة اللانهائية لليل والنهار

شاءت أن يكون العام 365 يوماً، وأجبرت الإنسان العصري الذي حطّم جميع القيود، واعترض، وبدّل، وقلب الدنيا رأساً على قلب، على الانقياد لأجندات الطبيعة وإحصاء السنين «على الطريقة التقليدية» كما لو أنه لم يغادر كهفه يوماً.
فردت «منظمات حقوق الإنسان» جداولها، لتقارن أعداد الضحايا هذا العام بسابقه، ووزعت أسماء الشهداء على محافظاتهم ومدنهم. ثم ذهبت بعد ذلك لتجزئة أرقام الضحايا وتفتيتهم إلى فئات، خصصت جدولاً للضحايا من الأطفال وآخر للنساء. وثالث للخسائر المادية: منزل، سيارة، حي. رتبت الأسماء في الجداول حسب الإعاقات: بتر ساق، فقدان العين اليسرى، رصاصة في القلب. ربما تكون ذهبت أبعد من ذلك في دفاترها لتحصي الضحايا تبعاً لمتغير «الدين» كي تكشفها قناة «العربية» مثلاً فيما بعد، بوصفها ملفات سرية حصرية، على اعتبار أنها تهوى تفتيت الألم السوري وتوزيعه على خرائط ورسوم توضيحية.
انشغلت وسائل الإعلام، وصحيفة «التايم» باختيار «شخصية العام»، ذلك الشخص الذي يتوج ملكاً على هذا الكون المضطرب تبعاً لشهرته أو عدد المرات التي كتب اسمه على محرك البحث «غوغل» أو لاعتبارات سياسيةٍ أو دينية لا تهم أحداً من سواد الناس من «غير الاستثنائيين».
عرضت «رويترز» أهم 100 صورة التقطها مصورها حول الكرة الأرضية، دون أن تنسى تبني معايير اختيارها بحيث تَعدُلُ بين الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية، وتضمنُ تمثيلاً كافياً لأصحاب البشرة الملونة، والنساء، ومثلّي الجنس «مشان ما يزعل حدا».
تتدرج « جردات آخر العام» في موضوعاتها وأحجامها، إلا أن أهمها ربما تلك «الحسبة الصغيرة» التي يجريها المواطن السوري اليوم دون أن يحتاج «ورقة وقلم»، يحصي الأطفال ما تبقى من ألعابهم (إن كان تبقى أي شيء يستحق بذل الجهد لإحصائه)، يحصي الأهالي أطفالهم، ويقدرون النقص في خزانة مؤنتهم، واتساع المساحات الفارغة في ثلاجتهم، يحصي السوري اليوم ابتساماته، فالعدد سهل الإحصاء، يحصي خيباته ويتوقف عن العد. أما من فقدوا «كل شيء» فلا يشغلون بالهم في عمليات الحساب، كيف يمكن جرد «اللا شيء» والتعبير عنه برسومٍ بيانية.  
تضع نهاية العام المرء وجهاً لوجه أمام «الزمن»، لا يحتاج المواطن السوري اليوم تعقيد الحسابات حتى يترسخ لديه الشعور بالخسارة، كان يكفيه في العام الماضي وما سبقه القول «بعدنا طيبين» باعتبار ذلك خروجاً بأقل الخسائر، إلا أنه يضيق ذرعاً اليوم بكل ما يجري ، هو يرفض أن ينزع ورقة بعد أخرى من رزنامة أيامه الرمادية الباردة المخيفة. لن يسمح لعامٍ آخر أن يمضي، ولخسائر جديدة أن تتراكم، لن يسمح للعنف والجنون والضباب أن يسود لعامٍ جديدٍ بعد.