أوركسترا المحرومين؟
جورج دحدوح جورج دحدوح

أوركسترا المحرومين؟

أغلق عيني لأصغي جيداً، لا ضيقاً مما أرى، بل رغبةً في رؤية الشكل الحقيقي لما يصنعه العازفون بآلاتهم الموسيقية ، ولا أستطيع منع نفسي من الذهاب مع مخيلتي إلى قصور الباروك، وحدائق أرستقراطية أوروبية تفيض بالترف والجمال، وكل ما يمكن أن يخطر على البال في الحياة من مباهج

أعيد مقطع «اليوتيوب» مرةً أخرى، لأصطدم ثانيةً بالمفارقة بين ما أسمع، وما أرى، كيف لآلات الكمان هذه، المصنوعة من مستوعبات التنك الفارغة وأنواع أخرى من القمامة، أن تصدر هذا الصوت الملائكي؟

قرية «كاتيوورا»، في باراغواي، هي عبارةٌ عن بضعة بيوت من الصفيح، يعتاش أهلها على إعادة تدوير النفايات التي تصب بالقرب منهم، وتعد هذه القرية أحد أكبر تجمع للنفايات في باراغواي، والتي يملكون منها الكثير، فمجتمعاتنا الاستهلاكية تنتج يومياً كميات هائلة من النفايات، يصعب علينا تخيل حجمها، أو ربما لا نرغب بذلك. وفي قرية «كاتيوورا» هذه ، لا يساوي ثمن المنزل فيها ثمن آلة الكمان، هكذا يبتدئ «فافيو تشافيز موران» مؤسس «أوركسترا إعادة التدوير» كلامه، مكملاً بأن المشروع كله بدأ كاستجابة لفكرة أطلقها المايسترو «لويس زاران» أحد أبرز قادة الأوركسترا في باراغواي ومؤسس مشروع أوركسترا «أصوات الأرض». يعبر المايسترو «زاران» عن رغبته في تعليم الموسيقا للأطفال في الضواحي، ويؤكد ذلك  بقوله: «لقد أدركت على الدوام قدرة الموسيقا على تحقيق التحول الاجتماعي». ويكمل حديثه في مناسبة أخرى: «أريد لهذا المشروع أن يكون مجانياً، فليأتنا أكثر الأطفال فقراً».
«أصوات الأرض»
ترجم «زاران» وأعضاء فرقته رغبته وكلامه هذا بإجراء جولة  حول باراغواي استمرت لمدة عام، قاموا خلالها بلقاء ما يسمى المجتمعات المحلية المختلفة، بالإضافة إلى معلمين ورجال دين وفلاحين في طول البلاد وعرضها، حتى قادتهم خطاهم إلى قرية «كاتيوورا» بناءً على اقتراح «فافيو موران»، وهو أحد أعضاء أوركسترا «أصوات  الأرض» ومؤسس أوركسترا «إعادة التدوير» لاحقاً. يقول موران: «وجدنا أن عدد الأطفال المسجلين في تلك القرية يفوق عدد الآلات الموسيقية المتوفرة». وتعقب فتاة صغيرة تعزف على كمان معاد تدويره، على كلام موران بقولها: «كان عددنا خمسون، بينما كان لدينا خمس آلات كمان».
وفي محاولة من «فافيو موران» للبحث عن حل لهذه المشكلة، قدم اقتراحاً لتصنيع آلة كمان من المواد المتوفرة في البيئة المحيطة، وتعرّف من خلال ذلك على «كولا»، أحد سكان القرية المعدمين الذي يعتاش وعائلته في كفاح يومي لتأمين قوتهم، من تدوير ما يتيسر لهم من النفايات وبيعها، يقول موران: «ما صدمني بدايةً هو أن هذا الرجل لم يفكر في تحقيق أي مكسب مالي..!».
النفايات والموسيقا
 قام «كولا» هذا وهو الذي لم يسمع يوماً بموزارت، بتصنيع أول كمان مستعملاً عبوة فارغة من التنك، وشوكة طعام ليثبت بها الأوتار، وبعض القطع الأخرى مما توفر لديه من النفايات. وكانت النتيجة مذهلة. يقول  زران معلقاً على هذا الكمان البدائي: «لقد ضحكنا كالمجانين عندما رأيناه، لقد بدا الأمر لنا كأنه نكتة، لكن عندما جربه البروفيسور موران بدا لنا الأمر قابلاً للتحقيق، ويمكن لطفل أن يبدأ دروسه الأولى باستخدام هذه الآلة بكرامة».
تلك كانت البداية، اليوم تطوف أوركسترا إعادة التدوير على دور الموسيقا حول العالم، في أمريكا الشمالية وأوروبا وغيرها، لتؤدي مقطوعات موسيقية عالمية، يعزفها أطفال ومراهقون من مقلب قمامة باراغواي، يعزفون على آلات وترية من صفيح وأخشاب صناديق شحن وعلى آلات فلوت وساكسافون مصنوعة من أنابيب صحية وأزرار وقطع نقدية عديمة القيمة، تحت شعار «يرسل لنا العالم النفايات، ونعيدها للعالم موسيقا».
من هم المحرومون؟
يعيد أكثر أطفال ومراهقي باراغواي فقراً تعريف معنى الغنى والحرمان، يعيدون تدوير أقبح مفرزات المجتمعات الاستهلاكية ليصيغوا منها جمالاً لا يقدر بثمن. يجسد مشهد الأطفال الرائعين هؤلاء، مقولة أوسكار وايد :«هذه الأيام يعرف الناس سعر كل شيء، ولا يعرفون قيمة شيء»، مع فارق أن هؤلاء الأطفال أثبتوا بموسيقاهم وأدواتهم البسيطة عكس ذلك.
 ليس هؤلاء بمحرومين ومعدمين، لأن لا شيء يولد من العدم، كل ما في الأمر، أنهم وجدوا طريقهم ليظهروا لنا القيمة الحقيقية للجمال الكامن فيهم، بعيداً عن الأسعار والبورصات والمضاربات المالية التي تصب قذارتها ومجاريها في أزقتهم ومساكنهم، نجح هؤلاء الأطفال في أن يخرجوا نظيفين كالثلج من مجمع القمامة. ليطرحوا علينا سؤالاً أترك لكم الإجابة عليه: «من هم المحرومون؟»..