وديع الصافي.. رحيلٌ لا يعني الغياب

وديع الصافي.. رحيلٌ لا يعني الغياب

غيب الموت يوم الجمعة 11/10/2013، عملاقاً من عمالقة الطرب في لبنان والعالم العربي، عن 92 عاماً إثر وعكة صحية.. الفنان الذي «يحكي غنا».. ويخترق صوته الشعور.. لديه صوت يمنح الكلمات بعداً آخر .. ويغطي مساحات واسعة..

من يسمع أغنية وطنية من «الراحل الحاضر» وديع الصافي لا يمكنه إلا أن يحب بلده .. عندما يصدح ذاك الصوت «بلدي..» أو ينادي في أغنية «يابني بلادك قلبك عطيها..»، يحتوي بمساحته المشاعر ويملأ الروح كما يملأ حضوره المسرح.. غنى عن البلاد.. وللبلاد.. رغم أنه لم يحظَ بالاهتمام الرسمي في بلده إلا متأخّراً. ربما أعطى الوضع السياسي الخاص للبنان أهمية مميزة لفنه وفنانيه، فكانت مدارس الفن في لبنان أحد عوامل الوحدة الوطنية فيه على عكس الاتجاهات السياسية فيه. وهكذا فقد غنى وديع الصافي كل الأنواع.. وتجاوز لبنان إلى العالمية فكان أن لبنان لم يخسر وحده وديع الصافي بل خسره محبو الفن العربي «الأصيل» جميعاً، مع الإشارة إلى أن لوديع الصافي دوراً في ترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، ونشر الأغنية اللبنانية في الكثير من البلدان العربية والعالمية. وأصبح مدرسة في الغناء والتلحين.
ولد «أبو فادي» في 1 تشرين الثاني عام 1921 في قرية «نيحا»، قضاء الشوف، وجاء إلى بيروت عندما كان في سن العاشرة. عاش طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان. وكانت انطلاقته الفنية سنة 1938 حين فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناء وعزفاً من بين أربعين متبارياً في مباراة للإذاعة اللبنانية أيام الانتداب الفرنسي في أغنية «يا مرسل النغم الحنون» للشاعر الأب نعمة الله حبيقة. وقامت لجنة التحكيم في حينه باختيار اسم «وديع الصافي» كاسم فني له نظراً لصفاء صوته. وكانت إذاعة الشرق الأدنى المحلية اللبنانية بمثابة معهد موسيقي تتلمذ فيه. وشأنه شأن الكثيرين من مطربي عصره في لبنان فقد بدأت مسيرته الفنية عملياً عبر إذاعة دمشق ليشق طريقاً للأغنية اللبنانية التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. في أواخر الخمسينيات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية انطلاقاً من أصولها الفولكلورية من خلال مهرجانات «بعلبك» التي جمعت وديع الصافي وفيلمون وهبي والأخوين رحباني وزكي ناصيف وغيرهم، فشارك في مسرحيات «العرس في القرية» و«موسم العز» وشكل ثنائياً غنائياً ناجحاً مع المطربة صباح في العديد من الأغاني والإسكتشات. هذا بالإضافة إلى مشاركته بأكثر من فيلم سينمائي. وكان الصافي وفياً لتجربته مع الرحابنة وعبر عن فخره بها، وخاصة مع السيدة فيروز، قائلاً: «لقد عملنا معا وقدمنا الروائع سواء في المهرجانات أو الثنائيات الغنائية وكانت المنافسة بيننا على أشدها لكنها منافسة شريفة وتهدف إلى تقديم الأفضل.
عرف عن وديع الصافي تواضعه، على الرغم من المديح الكبير الذي قوبل به من فنانين قدموا ألحانهم له مثل: محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش الذي لحن له أغنية «على الله تعود» وفيلمون وهبي وزكي ناصيف الذي وصفه بـ«العملاق». ورغم موهبة الصافي في التلحين إلا أنه كان يحرص على ألحان الآخرين إذا وجد الأغاني المناسبة، وهو يقول في ذلك: على المطرب الملحن ألا يكون أنانياً.
مع بداية الحرب اللبنانية غادر وديع لبنان إلى مصر سنة 1976 ومن ثم إلى بريطانيا ليستقر سنة 1978 في باريس. وكان يحمل ثلاث جنسيات، المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلى جانب جنسيته اللبنانية التي كان يفتخر بها ويردد أن الأيام علمته بأن «ما أعز من الولد إلا البلد».
غنى وديع الصافي أكثر من خمسة آلاف أغنية وقصيدة، لحن هو معظمها، وأحيا التراث المشرقي العربي، وجدّده، في الوقت الذي يمتد فيه الغناء الشعبي اللبناني، بشتّى أنماطه وقوالبه «من الميجانا وأبو الزلف، إلى المعنّى والعتابا، مروراً بالشروقي والقرّادي»، ويتفرع إلى كل البلدان المجاورة من فلسطين إلى سورية والأردن وحتى العراق.
اليوم ومع رحيل الصافي قد لا يستطيع الموت هزيمة من يقدم للناس بإخلاص.. ولكنه يغيبهم عن الآخرين فحسب لأنهم يهزمون الموت بحضورهم المستمر.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.