أفاميا من قبل ومن بعد؟
نشأت الرعدون نشأت الرعدون

أفاميا من قبل ومن بعد؟

إن ما دعاني لأكتب اليوم، هو ما نشرته صحيفة قاسيون العدد رقم /615/ والتي عرضت صورتين جويتين مختلفتين كلياً لموقع مدينة أفاميا الأثري، وهما في الحقيقة صورة واحدة إنما في تاريخين مختلفين، الواحدة من قبل والأخرى من بعد، أما ما القبل وما البعد فذلك جوهر الحكاية..!

كيف لا وأنا ابن أفاميا، ربيت فيها وعرفت حجارتها حجرة حجرة، وما أن دخلت كلية الفنون الجميلة حتى تخصصت بالنحت، وقرأت تاريخ الفن والعمارة، فتابعت تاريخها وأحببتها حتى العشق.
تقع مدينة أفاميا إلى الشمال الغربي من حماة وتطل غرباً على سهل الغاب، وتعتبر من أقدم المناطق السورية المأهولة، وتعود آثارها إلى العصرين الحجري والوسيط، عرفت في الحضارة السورية القديمة بأسماء عدة، فهي مملكة (نعيا) ثم (فرنكة) أي اللبؤة، ولما مر بها «الإسكندر المكدوني» في حملته على بلاد فارس 333 ق.م أعجب بها، وأطلق عليها اسم «ببلا» أي الجميلة، وبعد موت الإسكندر في بابل واقتسام امبراطوريته بين قواده الأربعة، كانت سورية من حصة «سلوقس نيكاتور»، الذي اعتمدها كإحدى مراكز دولته السلوقية الجديدة، فأقام فيها ومنحها اسم زوجته الأميرة الفارسية «أبامي».
نظمت المدينة على شكل رقعة الشطرنج، يتوسطها الشارع الرئيسي، من الشمال حيث بوابة أنطاكية، حتى الجنوب بطول /1850/ م وعرض /37/م بما في ذلك الرصيفان الجانبيان المسقوفان حيث تتوزع المحال التجارية، وفيها حوالي /1800/ عمود، على ثلاثة أنواع، الملساء، والمقناة، والمحلزنة. وهذه الأخيرة توجد فقط في الساحة الرئيسية (الآغورا) حيث معبد (زيوس) أكبر وأجمل مباني المدينة.
واشتهرت المدينة بعمرانها ومسرحها، وهو من المسارح الكبيرة في العالم، وقد فرشت هذه العمائر بالفسيفساء التي تحكي مشاهد القصص والأساطير والمشاهد الطبيعية والزخرفية.
ظلت أفاميا مركزاً تجارياً وثقافياً هاماً حتى دمرها زلزال عام 115 م. فأعادت الأسرة الأنتونية إعمارها في عهد الإمبراطور (تراجان) وابنه (هادريان)، ثم ازدهرت من جديد في عهد الأسرة السورية أي (جوليا دومنا ومن بعدها) هكذا إلى أن هاجمها (كيخسرو الثاني) ملك الفرس عام 573 م، فهدم سورها وأحرقها ونهبها وقتل وأسر.
 في القرن العشرين جاءت إليها العديد من البعثات الأثرية البلجيكية والفرنسية والإيطالية، التي اكتشفت الكثير وقالت الكثير فهذا «أندريه بارو» مدير متحف اللوفر سابقاً يقول: «أن أفاميا وحدها، تغني سورية بآثارها»، وقد شبهها بجسد صبية مسجى مؤكداً: «وليس على السوريين إلا إزاحة التراب عن هذا الجسد ليكتشفوا جماله وغناه».
هذا عما كان من قبل، أما عما حدث فيما بعد، لقد حان الوقت ليشمر السوريون عن زنودهم ويبدؤوا بإزاحة التراب عن الجسد الجميل لأفاميا، فمع بدايات الـ 2011 استغل اللصوص الأحداث المؤسفة في سورية وتجمعوا من أرجائها مستعينين بلصوص المدينة نفسها (قلعة المضيق) ولكن ليس بالمجحاف والفرشاة كما يعمل المنقبون، بل بكل أنواع الآلات وأشدها تخريباً وتدميراً بالجرافات والحفارات العملاقة، وقد أحصى المهتمون هناك حوالي خمسين ورشة تعمل ليل نهار ولشهور عديدة، فأظهرت ما كان مختبئاً وأوقعت ما كان واقفاً، بعضها يختص بالكشف عن أرضيات الفسيفساء، وأخرى في التنقيب عما في الآبار من لقى وتحف وعملات، أو في القبور ونبش المستور وسرقة التماثيل وتيجان الأعمدة. فكشفوا عما عجزت البعثات الأثرية عن كشفه ونهبوا ما عجز (كيخسرو) عن نهبه وحطموا ما لم تستطع كوارث الطبيعة تحطيمه، نحو مئتي لوحة موزاييك يزيد طول بعضها عن ستة أمتار والكثير الكثير من التماثيل واللقى الأثرية من عملات وتحف وأوان منزلية.
هكذا تحقق قول الباحث الفرنسي الكبير «أندريه بارو» ولكن ليس بغنى سورية حضارة وسياحةً، بل بغنى اللصوص فقط فإذا بأفاميا الجميلة لا شيء مجرد أكوام من التراب ظلت شاهدة على جريمة لصوص الحضارة في القرن الواحد والعشرين.


 نشأت الرعدون : فنان تشكيلي ــ نحات