مسلسل «عمر»: المخطط السعودي ــ القطري الخبيث
أسعد أبو خليل أسعد أبو خليل

مسلسل «عمر»: المخطط السعودي ــ القطري الخبيث

لا تأتي الثقافة من عدَم: لهذا اجترح الفيلسوف الألماني الفذّ، ثيودور أدورنو، مصطلح «صناعة الثقافة» ليشير فيه إلى العمليّة غير العفويّة التي على أساسها تُنتج الثقافة في المجتمعات وبارتباط وثيق مع النمط الرأسمالي في الإنتاج.

نستطيع قياساً تطبيق مفهوم أدورنو على الثقافة العربيّة المعاصرة، لكن المهمّة ستكون أكثر سهولة من ترصّد صناعة الثقافة في الدول الغربيّة؛ لأن الرأسمال هناك يتحرّك أحياناً من خلف ستائر يقلّ عددها يوماً بعد يوم. أما في العالم العربي، فإن الإنتاج الثقافي بات أسير سطوة سلالات النفط والغاز، ومن عاونهم من أصحاب المليارات. فالحكم بنجاح أو فشل العمل الأدبي أو الفنّي بات يخضع لمشيئة شيوخ نفط (دبي غالباً) ممن تعصاه كتابة جملة عربيّة واحدة. باتت جوائز الأدب والصحافة تُقدّم من حاكم دبيّ المتعدّد الزوجات. أي إن الذوق العربي العام (والذوق يُخلق ويُكوّن ولا يأتي بالفطرة، وقد أثبتت الدراسات أن شعبيّة مقاهي «ستاربكس» _ المُدرجة على قائمة مقاطعة العدوّ الإسرائيلي _ تعود لنسبة الـ«كافيين» العالية في قهوتها لزيادة الإدمان) خاضع لذوق حكام الخليج.

هل من ينكر أن الوليد بن طلال مسؤول بدرجة كبيرة عن الهبوط الفنّي السائد من خلال شركته الاحتكاريّة؟
والمسلسلات الرمضانيّة في العالم العربي جزء من الثقافة المصنوعة، وهي تخضع لمشيئة النفط والغاز ولمشروعهما السياسي. وهي تصبح ضروريّة في سياق زخم لا بل وحشيّة الحملة الدعائيّة الطائفيّة _ المذهبيّة التي يشنّها التحالف القطري _ السعودي (ليس أسوأ من السلالة القطريّة والسلالة السعوديّة إلا اجتماع السلالتيْن على شرّ). والمسلسلات تدخل في صنفيْن، وخصوصاً أن دول النفط والغاز جاهرت بإصرارها على منع الفضائيّات التي لا تتماشى مع مخطّطاتها في المنطقة العربيّة والعالم: الصنف الأوّل هو صنف الإلهاء الذي يحتلّ فيه عادل إمام وغادة عبد الرازق موقع الصدارة (وهوى أصحاب مليارات مصر والعالم العربي يتطابق مع هوى أنظمة الخليج: اتحد أصحاب المليارات ولم يتحد العمّال، كما أراد ماركس، رضي إنجلز عنه)، والصنف الثاني ينخرط في مشروع التحريض الطائفي _ والسياسي الهادف، وإن تستّر وراء الحقبات التاريخيّة. ومسلسل «عمر» هو من الصنف الثاني (كان سيدخل في الصنفيْن معاً لو قامت غادة عبد الرازق ببطولة المسلسل مع عادل إمام).


يجب، بداية، ملاحظة رداءة مستوى الدراسات الإسلاميّة والفنّ الإسلامي في إيران وفي الدول العربيّة قاطبةً. من غير المسموح التطرّق للإسلام إلا من باب الدعوة أو التحريض أو التجييش والتعبئة. الدراسات النقديّة والأطروحات الأكاديميّة الرصينة تمنعها السلطات السياسيّة والدينيّة والعلميّة المتنفّذة. كيف يمكن أن تكون أفضل سيرة أكاديميّة لمحمد، وهي من تأليف ماكسيم رودنسون، لا تزال غير مُترجمة إلى العربيّة أو الفارسيّة (والطريف أن حسن قبيسي الذي نشر ترجمة لفصول من الكتاب في مجلّة «الفكر العربي» نشر نقداً يساريّاً للكتاب، بعنوان «رودنسون ونبيّ الإسلام»، من دون أن يكون الكتاب نفسه متوافراً بعد لقراء العربيّة). تهيّبت كل دور النشر العربيّة أمام نشر ترجمة قبيسي الكاملة للكتاب، والتي ضمّنها أطروحته للدكتوراه في الجامعة اليسوعيّة). ولم يُنشر بعد كتاب عربي رصين عن سيرة الرسول منذ كتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد» الذي صدر عام 1935، مع أنه خلا من الحسّ النقدي التاريخي. إن قوّة الاستشراق الغربي عن الإسلام، حتى بين المسلمين، يكمن جانب منها في ضحالة الدراسات الإسلاميّة في البلاد الإسلاميّة. ليس هناك بعد ردود أكاديميّة عربيّة على الاستشراق الغربي عن الإسلام إلا من باب الدعاية والشتيمة. إن أفضل المسموح في الدراسات الإسلاميّة المعاصرة هو سلسلة «العبقريّات» لعبّاس محمود العقّاد.


أما الأفلام والمسلسلات عن تاريخ الإسلام فهي لا تتخطّى نطاق الدعوة والتبشير الدعائي. وفيلم «الرسالة» الشهير (وهو من إخراج من لم يكن له أي خلفيّة في الإخراج وعلاقته بالفن السينمائي كانت محصورة بإنتاج سلسلة أفلام رعب تجاريّة، «هالووين»)، كان أشبه بعمل غير مكتمل لتلاميذ سنة أولى في مدرسة إخراج سينمائي. والغريب أن سير الرسول في الفن العربي المعاصر لا تعتمد إلا على بعد واحد من المراجع الإسلاميّة الأولى التي كانت مركّبة وأمينة في روايتها وغير منتقية في ما ترويه وفي ما لا ترويه. إن المراجع العربيّة القديمة تحتوي من السياق الدرامي على ما يكفي لوضع أعمال فنيّة مسليّة ومفيدة، لكن العمل ذا البعد الواحد يطغى.


أما موضوع المسلسل هنا، فلنقر بحسنات له قبل المرور على سيّئاته، وهي وفيرة. المسلسل إنتاج قطري ضخم ويُبثّ على محطة سعوديّة عملاقة (أي إن المسلسل هو تتويج للتصالح السعودي _ القطري الذي يعاني منه العالم العربي الأمرّين). من حسناته أن خامة الممثّلين واختيارهم للشخصيّات المختلفة ممتازة: غسّان مسعود هو من أفضل الممثّلين قاطبة، ولقد تفوّق على كل الممثّلين الأجانب الذين ظهروا معه في فيلم «مملكة الجنّة» لردلي سكوت (والفيلم ذاك عانى مشاكل انحياز معاكسة لما يعانيه مسلسل «عمر»). لكن مسعود لم يُصب بعقدة العالميّة وثابر في أعمال عربيّة مختلفة تظهر فيها موهبته من دون تناقص أو غرور. ومهيار خضّور هو أيضاً من أفضل من ظهر على شاشة وأدى دور خالد بن الوليد بمهارة واستطاع أن يستبطن معالم الشخصيّة المعقّدة والعبقريّة. لكنْ هناك تفوّق سوري واضح في التمثيل في الأفلام والمسلسلات العربيّة. تراهم ينطقون بجمل الحوار وكأنه ليس حوار فيلم أو مسلسل، فيما يتلو الكثير من الممثّلين اللبنانيّين حواراتهم وحواراتهنّ ببطء وبلادة تصاحبهما تنهّدات باتت علامة فارقة (ومُزعجة) في مدرسة التمثيل اللبناني المعاصر. أما في المسلسلات المصريّة، فإن ضرر يوسف وهبي (وصراخه الدرامي) لا يزال جاثماً: التمثيل المسرحي يسود في تمثيل المسلسلات، ما يجعله قابلاً للسخرية. ضخامة الإنتاج في مسلسل «عمر» أسهمت في إضفاء طابع واقعي جدّاً على تصوير الأماكن والحقبة التاريخيّة من خلال بناء أماكن وتشييد قلاع، بالإضافة إلى تصوير المعارك الحربيّة بصورة أفضل من كل ما سبقها في تصوير المعارك في الأفلام والمسلسلات العربيّة. وقد أجاد المخرج في استخدام السرعة الأبطأ في لقطات الاشتباك بالسيوف والخناجر. وأصاب المسلسل في التركيز على شخصيّة خالد بن الوليد، هذا الذي سُجّل له نحو 50 انتصاراً عسكرياً أساسياً، ونحو 50 انتصاراً في معارك أصغر. وأحسن المخرج في إدارة ممثّليه، ما أدّى إلى الحفاظ على نوعيّة مميّزة من البراعة في التمثيل. كذلك إن الحوار مكتوب بلغة عربيّة بليغة، وهذا أمر نادر هذه الأيّام. وحرص المخرج على أن يكون الإلقاء عفويّاً وصحيحاً، وهذا ليس سهلاً. ويجب التنويه بتصميم الأزياء (للجنسيْن) الذي جاء جميلاً وواقعيّاً في آن واحد.


أما في الجانب السلبي فنيّاً، فهناك الكثير: كيف يمكن دبلجة صوت الممثّل الرئيسي في المسلسل؟ من قرّر ذلك وظنّ أنه لن يضعف قيمة العمل (يذكّر ذلك بقرار السينما المصريّة في السبعينيات الاستعانة بجورجينا رزق كممثّلة بعد تتويجها «ملكة جمال الكون» قبل أن يكتشفوا أن لا موهبة تمثيليّة لها فدبلجوا صوتها وفشلت أفلامها)؟ وصوت «عمر» (وهو غير صوت الممثّل لدور عمر) لم يصلح للفيلم وجاء مخنوقاً. والممثّل الذي أدّى دور عمر، سامر إسماعيل، هل ظن أن التمثيل لا يكمن إلا في التجهّم؟ ومن قال إنّ العرب القدامى والمسلمين الأوائل لم يضحكوا؟ لم يكن العرب آنذاك على شاكلة رجال الدين والسياسة في عصرنا (يمكن مراجعة كتاب محمد قره علي، «الضاحكون»، لتبيان الهزل والضحك في التراث). وكانت تعبيرات إسماعيل محدودة جداً خلافاً للأداء البارع والمتنوّع في التعبير لغسان مسعود ومهيار خضّور.


وهل ظنّ المُخرج أن تصوير مشهد لنحو عشر دقائق _ أو هكذا بدا لي _ للمسلمين وهم يطوفون حول (مجسّم) الكعبة يكفي للحفاظ على المشاهد المُمسك بجهاز التحكّم عن بعد؟ وليس من المبالغة القول (أو من المبالغة القليلة القول) إنّ نصف المسلسل كان عبارة عن صياح «الله أكبر» من قبل المسلمين. وعانى المسلسل من غياب الحبكة الدراميّة الرابطة، فجاءت المشاهد غير مترابطة: إن التسلسل التاريخي الكرونولوجي لا يكفي للرواية. وهذا ما لحظه الأديب جرجي زيدان في كتبه القيّمة في سلسلة «روايات تاريخ الإسلام» عندما ربط بين حبكة دراميّة لقصص حب وخلافات عائليّة على خلفيّة التاريخ الإسلامي، فكانت النتيجة مشوّقة وتعليميّة في آن واحد. واختيار السيرة الكرونولوجيّة كان سهلاً وغير ممتنع: ولم يكف مشهد عمر وهو يتذكّر من على متن ناقته كي نربط بين المشاهد المتوالية. وغياب الحبكة الدراميّة كان ظاهراً، وخصوصاً أن الحوار كان غالباً مستقى بالكامل من نصوص الكتابات الإسلاميّة التاريخيّة، من رسائل وخطب وحوارات، ما أضفى طابعاً مونولوجيّاً (أو إلقائيّاً من طرف واحد) على الحوارات فيما يستمع الحضور أو يهزّون رؤوسهم إيجاباً، أو _ وهذه هي الوسيلة المفضّلة عند المخرج _ يصيحون: الله أكبر. السجال والجدال والمناظرة _ وهي سمات من حياة العرب _ ندرت في المسلسل.
لكن هناك ما هو أسوأ: المرامي الطائفيّة والسياسيّة من وراء المسلسل. نلاحظ بداية أن يوسف القرضاوي وسلمان العودة كانا من فريق الملاحظة التاريخيّة. هذا من العوامل التي تضرّ بالأعمال الفنيّة والأدبيّة عن الإسلام: لا تمييز بين الدعاة والمؤرّخين. ليس الاثنان من المؤرخين، والقرضاوي صريح ومساهم أساسي في التحريض المذهبي الجاري. هذا وحده لا يبشّر بالخير من دون أن تشاهد البرنامج. لكن الأنكى في التصوير السيّئ، لا بل المُغرض لشخصيّة علي بن أبي طالب. إن التنازل الوحيد الذي قدّمه البرنامج لجمهور الشيعة هو في اختيار ممثّل تشبه ملامح وجهه لا ملامح علي بن أبي طالب الحقيقي التاريخي، وإنما المُتخيّل الشعبي الذي على أساسه يظهر علي وكأنه شبيه للتصوير الأوروبي لعيسى بن مريم، أي إنه أزرق العينيْن وأشقر الشعر مع أنه ولد في بلادنا. من المستحيل أن تكون الصور المُنتشرة لعلي (أو ليسوع المسيح) حقيقيّة وغير مُتأثّرة بالتعريف الجمالي للرجل الأبيض الأوروبي.


لكن المسلسل أهمل عامل الدقّة التاريخيّة بالنسبة إلى هيئة الشخصيّات التاريخيّة وصفاتها عامّة؛ إذ إن السيوطي يصف علي بن أبي طالب كما يأتي: «وكان علي شيخاً، وسميناً، أصلع، كثير الشعر، ربعة إلى القصر، عظيم البطن، عظيم اللحية جدّاً، قد ملأت ما بين منكبيه بيضاء كأنها قطن» («تاريخ الخلفاء»، ص. 132 من طبعة دار الكتب العلميّة). وقد جاء وصف عمر لابن عساكر عن أبي رجاء العُطاردي كما يلي: «كان عمر رجلاً طويلاً جسيماً أصلع شديد الصلع أبيض شديد الحمرة في عارضيه». أما ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»، فقد وصف عمر كما يأتي: «كان طويلاً آدم، أصلع، أعسر» (ص. 447 من الجزء الثاني، طبعة دار الكتب العلميّة). وقد ذكر عبّاس محمود العقّاد أن الناس كانت تخلط بين عمر وخالد بن الوليد عن بعد. لم يلحظ المسلسل ذلك على الإطلاق.


أما بعيداً عن الشكل، فإن علي في شخصيّته في المسلسل بدا صامتاً ضعيفاً خانعاً وساكناً: أي إنه ظهر كشيعة الوهابيّة المعاصرين الذين ينطقون بما يريد منهم آل سعود أن ينطقوا. كان التركيز في المسلسل على علي المُقاتل فقط، للإيحاء أن مواهبه وإسهاماته في الإسلام لم تتعدّ جبهة القتال. والرجل الذي عُرف ببلاغته وفصاحته ومواهبه الخطابيّة تحدث في المسلسل بالإيماء غالباً. ولم يظهر في الفترة التي تلت وفاة الرسول وثم وفاة أبو بكر أي دليل على حركة شعبيّة مُساندة له: لا وجود لـ«شيعة علي» في المسلسل. والأخبث من ذلك أنّ الرجل الوحيد الذي حثّ علي على طلب الخلافة كان أبا سفيان عينه، أو الرجل المشكوك في إسلامه أكثر من غيره. لكن صمت علي خرقته بعض المداخلات له في قتال الفرس، مثلما يستشهد إعلام النفط والغاز بشيعة الوهابيّة في النزاع مع إيران. إن الإسقاطات لم تكن حتى مبطّنة. أين فصاحة علي وأين شخصيّته القياديّة؟ هل كان مجرّد «مرافق مسلّح» للصحابة؟ أراد منتجو المسلسل ومسوّقوه أن يجعلوا من علي مثل عقاب صقر أو أي من شيعة الوهابيّة الذين لا ينطقون إلا بما يمليه عليهم آل سعود. حتى قرب علي من الرسول (روت أم مسلمة «كان رسول الله إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلّمه إلا علي») أزعج منتجي المسلسل فتغاضوا عنه. هذه حقائق تاريخيّة بعيداً عن الفتنة الكُبرى وأوانها.


وهناك جانب آخر خبيث في المشروع السعودي _ القطري الذي تضمّنه المسلسل: تصوير معارك الرسول مع يهود المدينة. نعلم أن آل سعود وآل ثاني وآل نهيان لا يكترثون لصورتهم عند العرب، لكنهم يجهدون عبر شركات علاقات عامّة غربيّة لتسويق سلالتهم وتصوريرها بالحسن في الإعلام الغربي. والمُسلسل مُترجم إلى الإنكليزيّة، ولا يعود ذلك لإكتراث إعلام سلالات النفط والغاز بالجاليات المسلمة التي لا تفهم العربيّة. هم يتوجّهون للغرب وللغرب وحده، كذلك أفردت شبكة محطات «الجزيرة»، محطة خاصّة بأميركا تستعين فيها بمن يضمن كسب رضاء الرجل الأبيض في الغرب. يعلم أولو ثقافة النفط والغاز أن هناك مراكز صهيونيّة مثل «ميمري» ترصد كل ما يُقال بالعربيّة عن اليهود بغية تسليط الضوء عليها وتقريع (عبر الإدارة الأميركيّة) المسؤولين عنها. أراد المسلسل أن يقفز فوق حقائق تاريخيّة وأن يلوم رجلاً يهوديّاً واحداً فقط على ما جرى من حروب وخلافات بين المسلمين وبين أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم (وليس مع شخص واحد كما رُوي في المسلسل) في المدينة. ليس هناك مرجع تاريخي اعتمد عليه كاتبو حوارات المسلسل في تبرئتهم لنخبة يهود بني قريظة من العداء للمسلمين. إن الموضوع مذكور في آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة. إن سرديّة المسلسل عن علاقة المسلمين باليهود كانت مثل مبادرة الملك عبد الله للحوار بين الأديان، التي لم يرد منها إلا التقرّب الذليل من الحكومة الإسرائيلية. نسي من كتب قصّة المسلسل أنّ «حرب الجدل بين محمد واليهود (كانت) أشدّ لدداً وأكبر مكراً من حرب الجدل التي كانت بينه وبين قريش بمكّة»، على وصف محمد حسين هيكل («حياة محمد»، ص. 234). «وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حداً كان يصل أحياناً، مع ما كان بينهم من عهد، إلى الاعتداء بالأيدي» (ص. 236). ولقد ورد في القرآن في سورة النساء عن العداء اليهودي آنذاك نحو محمد والمسلمين: «أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون». ولماذا تجاهل المسلسل علاقة محمد مع نصارى نجران وأراد أن يركّز على يهود المدينة مع حرص على تبرئتهم؟ إن الغاية بلا شك سياسيّة معاصرة من سلالات نفط مُصابة بهوس إرضاء صهاينة الغرب بأي ثمن. إن سلالات الخليج أنتجت كمّاً هائلاً من أدبيّات الكراهية ضد اليهود وضد الآخر (وهي مُستنكرة ومُستفظعة حتماً)، لكن تلك السلالات أرادت أن تبيّض صحيفتها مع الغرب الصهيوني عبر التغاضي عن وقائع تاريخيّة لا مجال لمحوها. هل يتطوّع آل سعود وآل ثاني لحذف ما يسيء إلى اليهود من القرآن؟
لكن المسلسل، خلافاً لذلك، كان دعائيّاً ودعويّاً. لم يذكر من التاريخ إلا ما يثير الحماسة والحميّة. ولم يكن منصفاً في سيرته: أراد أن يذكر ما هو إيجابي وما هو مفيد في سلك الدعاية الدينيّة فقط. لقد أمر عمر، وكان غضوباً، بضرب أعناق من جاهر بجواز شرب الخمرة، لكن ذلك لم يرد في المسلسل. وصحيح أن محمد صفح عن هند بنت خويلد بعد فتح مكّة (هل كان لمنزلة زوجها، أبو سفيان، الاجتماعيّة علاقة بالصفح من الناحية السياسيّة؟) لكن العفو بعد فتح مكّة لم يكن شاملاً وعاماً؛ إذ إنه لم يصفح عن نحو عشرة من الرجال والنساء (اكتفى هيكل بذكر حالات أربع فقط. ص. 425). المراجع القديمة ذكرت مثلاً حالة عبد الله ابن أبي السرح: صحيح أن عثمان تدخّل عند الرسول كي يصفح عنه، لكن الرسول قال لصحبه بعد صدور العفو على ما جاء في رواية الطبري والواقدي: «ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا فيقتُله؟». التاريخ والفن المُستقى من رواية التاريخ لا يكون بإغفال الحسن _ من ناحية خدمة العقيدة (أو السلبي) أو بالتركيز على الحسن (أو السلبي). وعلى هذا، اقتضت الأمانة التاريخيّة في سرديّة محمد حسين هيكل أن يضمّن كتابه قصة نزول سورة النجم مع أنّه فنّدها (معتمداً جزئيّاً على تفنيد محمّد عبده) وجزم أن ورود قصة الآيات الشيطانيّة هي من «وضع الزنادقة» (ص. 165).


لكن يرتدي تناول الموضوعات التاريخيّة الإسلاميّة إشكاليّة أكيدة بحكم المحظورات التي تفرضها السلطات السياسيّة والدينيّة. إن الإحجام العربي _ الإسلامي عن فتح باب الدراسة الأكاديميّة وتطبيق النقد الأدبي _ كما حاول طه حسين أن يفعل وبتأثّر من المستشرق مرغليوث _ على النصّ المقدّس يسمح بانتشار الكتابات الاستشراقيّة أو الكتابات المعادية، الغربيّة والعربيّة على حدّ سواء (يندرج كتاب العفيف الأخضر عن محمد في باب هذا الصنف من الكتب). لماذا لا تتم كتابة التاريخ الإسلامي على الأقلّ على طريقة المؤرّخين الأوائل الذين ما امتنعوا عن تناول الموضوعات الحرجة؟ ماذا تفعل السرديّات التاريخيّة بحقائق عنيدة؟ ماذا تفعل بسيرة الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي أراد الحج «ليشرب فوق ظهر الكعبة»، على ما روى السيوطي؟
إن مسلسل «عمر» لم يكن بريئاً، وهو يعين حملات الفتنة الخليجيّة الجاريّة. ليس هناك سمة بريئة في المشروع الثقافي لأنظمة النفط والغاز. ونقد صناعة ثقافة النفط والغاز يدخل في باب التأريخ البعيد عن الهوى، كذلك فإنه يدخل في باب المقاومة... الثقافيّة.

المصدر: الاخبار