فرانز فانون.. كعلامةٍ تدلُ على الطريق

فرانز فانون.. كعلامةٍ تدلُ على الطريق

هذا وقت للتذكر وللحفاوة بواحد من بين أكثر أبناء عصرنا نُبلاً.

أتحدث عن “فرانز فانون“، ابن “جزر المارتينيك” وخريج الأكاديميا الفرنسية الذي خرج على منظومة السيطرة والاستلاب الاستعماري- العنصري وغواياتها واختار الانضمام إلى خندق المقاومة الجذرية العنيفة لها. لا كمثقف ثوري فحسب، وإنما كمناضل في صفوف” جبهة التحرير الوطني” قائدة كفاح الشعب الجزائري وثورته الوطنية التحررية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي(1954-1962).

 

فانون(1925-1961) ليس لحظة آفلة توهجت في زمن مضى. فآراؤه وتحاليله السوسيولوجية لآليات وأفعال التشويه والتدمير الذي تمارسه قوى الهيمنة العالمية ضد الشعوب المستضعفة المستهدفة بالاستتباع، ما زالت جديرة بالدرس في عهد العولمة الإمبريالية، كما في عصر الاستعمار. واقتراحاته لسبل التصدي لها ومواجهتها، ما زالت تحظى بالاهتمام- أو ينبغي أن تكون كذلك- وبخاصة، بالنسبة لشعوب البلدان التي ما زال الاستعمار جاثماً على أرضها، أو البلدان المهددة بعودته في أي وقت. ذلك انه لمن السذاجة بمكان، الاعتقاد بأن مطامع وطبائع الهيمنة والاستغلال قد تغيرت لمجرد أنها غيرت من أشكالها وذرائعها. وإذا كنا نعرف أن فلسطين لم تزل محتلة منذ أواخر الحرب العالمية الاولى، فلقد رأينا عودة الاستعمار المباشر مع الغزو والاحتلال الاميركي لأفغانستان والعراق. ورأيناه يتهافت على ليبيا، وينقض عليها كغنيمة سانحة قابلة للافتراس.

 

وفي متابعة وتحليل الأوضاع المالية والاقتصادية المضطربة التي تعصف بالدول الغربية، لنا أن نتوقع أن يكون خيار تصدير الأزمة-إضافة إلى ما يسمى بسياسة التقشف داخلياً- أحد الخيارات التي ستنال الحظوة  لدى صانعي القرار وجماعات المصالح في هذه الدول. وهو ما يعني في الترجمة العملية، وضع سياسة نهب الأمم والطبقات المستضعفة، قيد العمل ومباشرتها بكل الطرق، بما فيها الطرائق الاستعمارية القديمة العائدة للقرنين الماضيين.

 

هذا التشخيص، لا يعني تجاهل نضال الشعوب المحق في بلدانها ضد احتكار السلطة والفساد والإقصاء والحرمان، من أجل الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية، وسائر حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكنه يؤكد على البيئة الاستراتيجية التي يجري فيها هذا النضال، والشروط التي تفرضها على الشعوب، كي لا تتوه وتضيع بوصلتها، فتسلم بأيديها ما قاتل الأجداد والآباء وضحوا من أجله: استقلال الأوطان، وسيادة الدول، واسترداد الثروات، وتقرير المصير.

 

                              *     *     *

 

ثمة مسألة اُخرى ميزت “فرانز فانون“، يعرفها من اطلع على أعماله، وبخاصة كتابيه: ”بشرة بيضاء، أقنعة سوداء” و”المعذبون في الأرض“. ألا وهي رفضه الحاسم لما عرف بتيار الاندماج في الدول والثقافة الاستعمارية المهيمنة من جهة، ورفضه في الوقت نفسه لتيار العنصرية المضادة. فمع إلحاحه على الاستقلال التام الناجز، والقطع مع الاستعمار والعنصرية، إلا أنه رفض تفسير الصراع الدائر كصراع بين ألوان البشر المختلفة. إن هذه الفكرة بديهية بالنسبة لنا كعرب ورثة رسالات ذوات توجه إنساني. لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لآخرين في القرن الماضي. فرَدَّاً على ضغط التمييز والقهر اللذين مارسهما البيض الاستعماريون العنصريون، تعالت أصوات- وبخاصة في أوساط السود- تشيطِن الملونين الآخرين عموماً- وبخاصة البيض- وتدعو إلى عنصرية مضادة. كما هي حال المناضل الأميركي الأسود:”مالكولم إكس” قبل زيارته للبلاد العربية وقيامه بالحج، حيث عاد ليعلن خلافه مع مواقف قيادته السابقة في جماعة “أمة الإسلام” التي ضاقت به وبدعواه، فاغتالته.

 

نذكر هذا، لأننا نرى هنا وهناك مشاهد خلط بين عولمة إمبريالية استغلالية مراتبية تفريقية مرفوضة، وعالمية إنسانية جامعة تدعو إلى ما هو مشترك بين الأمم وتؤكد على ضرورة تعزيزه.

 

فإذا كانت العنصرية اللونية قد خفتت، فقد حلت محلها دعاوى الهويات الفرعية المغلقة، التي أججت نيرانها سياساتُ وآليات العولمة كمسعى لتمزيق الأمم لإحكام السيطرة عليها من ناحية، وللحيلولة دون قيام تضامن بينها في الكفاح المشترك ضدها من ناحية ثانية. وهذا ما تتواطأ معه وتستفيد منه زعامات الجماعات الفرعية، التي تريد نيل حصتها من استغلال “جماعتها” بالذات، وإيجاد موضع مناسب لها في إطار النظام الرأسمالي القائم وليس ضده. أي أن “نضالها” لا يهدف إلى تغيير النظام العالمي المشوه الجائر وبناء نظام عالمي جديد عادل، كما يتوق مستضعفو الأرض، بل الاندماج فيه. وقد سبق وأن فعلت هذا فئات من الطبقات العاملة في الدول الرأسمالية، وفئات من البرجوازية السوداء في الولايات المتحدة، وبرجوازيات العالم الثالث، التي توقفت أحلامها بالتغيير عند حدود تحسين فرصها. فانقلبت على ماضيها وأخذت تشارك أسياد العالم في اضطهاد ونهب الآخرين وبضمنهم رفاق كفاحها السابقون!

 

ولا يعارض النظام الإمبريالي هذا النوع من النضال بجد- إلا في بداياته، وبشكل جزئي- ما دام لا يسعى إلى القطع معه، ويتطلع إلى وضع نفسه في خدمته. وهو ما يساعدنا مثلاً على معرفة السبب الذي أتاح للنظام الأميركي أن يُمكن رجلاً أسود-”باراك أوباما“- من تولي منصب الرئاسة. إنه “خادم المنزل“، كما قال ”مالكولم إكس” ذات مناظرة شهيرة. ولا غرابة في الأمر! وإلا، فمن هو الأحمق الذي يبالي بلون القطة ما دامت قادرة على صيد الفئران، كما يقول المثل الصيني؟

 

ولكي لا نضرب أمثلة بعيدةً، فإننا نحيل إلى ما نشهده أمام أنظارنا في البلاد العربية، لنرى كيف تتقبل الولايات المتحدة ودول الغرب، التضحية بأتباعها السابقين، فيما تذود بضراوة عن بقاء أنظمتهم، وضمان مواصلتها لما إتبعوه من سياسات.

 

هذا يعني ببساطة، أنها مستعدة للتكيف مع تغيير الطاقم الحاكم البالي في الدول التابعة والتعامل مع وجوه جديدة، بشرط الحفاظ على النهج السياسي- الاقتصادي-الأمني الذي سار عليه السابقون، والتقيّد بما تقيّدوا به من التزامات، وبخاصة تجاه ”إسرائيل” و”العملية السلمية”. أي أنها تريد- وتعمل على- ضبط عملية التغيير الجاري وحصرها في حدود جزئية تتعلق بمظهر وشكل النظام السياسي، بما لا يطال أسس وركائز التبعية الشاملة لها. من باب أن تغيير الديكور لا يعني تغيير البناء.

 

وعلى ذكر “العملية السلمية” حَرِيٌّ بنا أن نتذكر موقف “فانون” الجلي المضاد لأية عملية سلمية مع المستعمرين. بل ضد أشباه وأنصاف الثورات التي لا تتجاوز مظاهر الاستقلال الشكلي. ومعروف للمطلعين، موقفه المعارض المقاوم والمحذر، من تلكم القيادات والجماعات في حركات التحرر والاستقلال، التي كانت مهتمة فقط بالوصول إلى مقاعد الحكم في بلدانها، عبر تسوية تعيد إنتاج الاستعمار بشكل جديد، وعلى حساب معاناة شعوبها.

 

                              *     *     *

 

في كانون الأول- ديسمبر من العام 1961، أودى سرطان الدم “بفرانز فانون” عن ستة وثلاثين عاماً، قبل أن يشهد استقلال الجزائر بعد شهور سبعة فقط- في تموز- يوليو-1962. ووري جسده بكرامة حيث يليق به في مقبرة الشهداء إلى جانب رفاقه المجاهدين الشهداء. وإذا كان الجزائريون يستعيدون في ذكراه، مُنظِّرَ ثورتهم، والطبيب النفسي في مستشفى مدينة “البليدة“، والمحرر في صحيفة” المجاهد“، ومبعوث الثورة وسفيرها في “غانا“، فإن أحرار وحرائر العالم، والمعذبين في الأرض، الذين كتب عنهم ولهم، يستعيدونه كصديق مشترك، ما زالت روحه باقية نابضة في تراثه الحي، كعلامة تدل على الطريق..

 

المصدر:  نشرة كنعان