الأرقام تكذب الغطاس: هل حقاً لا توجد موارد للدعم في سورية؟

الأرقام تكذب الغطاس: هل حقاً لا توجد موارد للدعم في سورية؟

تحت عنوان «الحماية الاجتماعية في سورية - تحديات وتوصيات»، قدّمت الباحثة الاقتصادية، د. رشا سيروب، يوم الأحد 20/4/2024، محاضرة في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، عرضت خلالها بعض البيانات والأرقام المهمة حول واقع الحماية الاجتماعية في سورية، مبيّنة بعض المفارقات الاقتصادية اللافتة في هذا الملف.

حول الغاية من الموضوع، أكدت د.سيروب أنه في الآونة الأخيرة تزداد الورشات والنشاطات والاجتماعات الحكومية حول دور الدولة اقتصادياً. لكننا في الوقت ذاته نرى كيف ترتفع أسعار السلع والخدمات الاجتماعية، ونلاحظ أنه يجري تقليص الدعم تحت ما يسمى بـ«إيصال الدعم إلى مستحقيه».
وهذا كله يتزامن مع التصريحات الحكومية التي نسمعها حول أن هنالك عجز في الموازنة العامة للدولة، وبالتالي فالحكومة «مضطرة إلى رفع الأسعار». وكذلك يرتفع الحديث عن أن الدعم الاجتماعي هو الذي أرهق الموازنة. وبهذه الطريقة، تترسخ صورة نمطية مسبقة بأن «الدعم السلعي» هو حماية اجتماعية، علماً أن الحماية الاجتماعية هي مفهوم أوسع وأعمق بكثير من الدعم السلعي.
وفي هذا الصدد، أكدت سيروب أنه منذ بداية الألفية الجديدة أصبح هنالك توجه نحو ليبرالية اقتصادية ونحو تحرير الأسواق مقابل انسحاب الدولة. وتكلل في عام 2005 باعتماد نظام «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي كان يُفترض من عنوانه أن تكون هنالك سياسات اقتصادية ليبرالية على أن تتزامن مع سياسات اجتماعية تدعم الفئات الأكثر فقراً، لكن ما حدث فعلياً أنه جرى تسارع في سياسات التحرير الاقتصادي بمقابل تراجع الإنفاق الاجتماعي.
وفي ظل أن الحماية الاجتماعية هي حق من حقوق الإنسان فضلاً عن كونها ضرورة اقتصادية واجتماعية، أشارت سيروب إلى أن السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحه ليس «هل تستطيع الدولة تحمل تكاليف الحماية الاجتماعية؟»، بل «هل تستطيع الدولة تحمل تكاليف عدم توفير الحماية الاجتماعية؟». مؤكدة في هذا السياق على أن من مسؤولية الدولة أن تقدم الحماية الاجتماعية مهما كانت مواردها المالية. وهنا السؤال: هل حقاً لا توجد موارد مالية لدى الحكومة السورية لتحمل تكاليف الحماية الاجتماعية؟ في هذا الصدد، شرحت سيروب:

التأمينات الاجتماعية: تسجيلات وهمية غير حقيقية

من الأرقام المهمة التي تثبت فعالية أو عدم فعالية سياسات الحماية الاجتماعية هي نسبة الأشخاص المشمولين في التأمينات الاجتماعية إلى مجموع قوة العمل (أي الأشخاص ممن هم في سن العمل بين عمر 15 و65). (انظر الشكل رقم 1) ونلحظ في هذا السياق أن النسبة في عام 2010 كانت 33%، وفي عام 2015 أصبحت 42%، ثم في 2019 أصبحت 38%، أما في 2022 صارت 39%. ولكن المفارقة أنه: هل حقاً زاد تسجيل العاملين في التأمينات الاجتماعية؟ نلحظ أن القفزة التي حدثت في أحد الأعوام سببها هو قرار الحكومة بإلزام التجار والصناعيين بتسجيل عدد من العاملين في التأمينات الاجتماعية، وبالتالي فإن هذا التسجيل وهمي وليس حقيقياً.

1172aa

والنسبة الأكبر من هؤلاء هم الموظفون في القطاع العام وليس القطاع الخاص. إذاً الإشكالية ليست أن غير العاملين ليسوا مشمولين بالتأمينات الاجتماعية فحسب، بل أيضاً نسبة كبيرة من العاملين في القطاع الخاص غير مشمولين. وإذا دققنا أكثر على رواتبهم التأمينية التي يفترض أن أساسياً من الحماية الاجتماعية في سورية فهي لا تؤمن الحد الأدنى من الضرورات المعيشية.
وعليه، فإن النسبة المنخفضة للمشمولين بالتأمينات الاجتماعية تؤكد أنه ليس لدينا حماية اجتماعية لشريحة كبيرة جداً ممن هم في سن العمل، وذلك في ظل غياب تعويضات البطالة.

215 ألف ليرة: النصيب السنوي للفرد من الصحة والتعليم والدعم

المؤشر الثاني الذي ينبغي تسليط الضوء عليه هو مؤشر الخدمات الاجتماعية في قطاعات الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي. فعندما تقول الحكومة إنها تنفق تريليونات الليرات على الدعم والخدمات الاجتماعية، لا يهمني كمواطن هذا الكلام، لكن ما يهمني حقاً هو كيف سينعكس هذا الإنفاق على وضعي.
وحتى لا يغشنا ضخم الأرقام التي يتم الحديث عنها، يجب أن نذكر أنه وفقاً لإحصاءات عام 2010، كان نصيب الفرد من الإنفاق العام السنوي على هذه البنود الثلاثة هو 11,028 ليرة سورية، ثم 36,662 ليرة في عام 2015، ثم 45,670 ليرة في 2019، وصولاً إلى 214,781 ليرة في 2022 (أنظر الشكل رقم 2).

1172ab

أي إن كل كلام الحكومة عندما تقول إنها تقدم دعماً، يترجم في نهاية المطاف بنحو 215 ألف ليرة للشخص سنوياً فقط على افتراض وصول الرقم المخصص للدعم إلى الناس فعلياً. وهذا الرقم يجب أن نقارنه مع وسطي تكاليف معيشة الفرد سنوياً، لنتبين حجم الفارق الهائل.

هل حقاً لا توجد موارد لتغطية تكاليف الحماية الاجتماعية؟

كلما قيل شيء عن مسألة الدعم، ترد الحكومة بأن هنالك مشكلة في تأمين الموارد اللازمة لذلك. لهذا سنتطرق إلى بعض الأرقام التي ترد على هذه الادعاءات.
أول هذه الأرقام هو رقم الإيرادات الضريبة بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي (انظر الشكل رقم 3). والإيرادات الضريبية هنا تشمل جميع أشكال الضرائب (الدخل، والأرباح، والرسوم الجمركية، والإنفاق الاستهلاكي... إلخ). وهذه النسبة في عام 2010 كانت 10% ثم 5% في عام 2015، ثم 5.3% في عام 2019، وصولاً إلى 8.3% في عام 2022.

1172ac

وإذا أشرنا إلى أنه حتى المؤسسات الدولية على اختلافها (وهي مؤسسات رأسمالية أصلاً، وتطالب دائماً بتخفيضات ضريبية للقطاع الخاص) تقول إن الدول كي تستطيع أن تحقق تنمية يجب ألا تقل نسبة إيراداتها الضريبية من الناتج المحلي الإجمالي عن 15%. وبالتالي فإن النسبة في سورية منخفضة جداً.
كما يجب الحديث عن الفاقد الضريبي (وهو ما كان يجب أن تحصل عليه الدولة وأن يدخل في الموارد العامة للدولة). وفي هذا الصدد، يؤكد «الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة» الصادر عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي أن حصة قوة العمل من الناتج المحلي الإجمالي هي أقل من 14.9% في عام 2021، بعد أن كانت 30.2% في عام 2010.
وهذا يعني أن حصة أرباح رأس المال تصل إلى أكثر من 85% من الناتج المحلي. وبالتالي هذه الـ85% يجب أن تخضع للضريبة. وبحسابات تقديرية (أنظر الشكل رقم 4) فإن الضرائب التي كان يجب تحصيلها من أصحاب رأس المال (وهذا على افتراض أن الضريبة هي فقط 10% علماً أنها يجب أن تكون 24%) هي 198 مليار ليرة سورية في 2010، و364 مليار ليرة في 2015، و982 مليار ليرة في 2019، وأكثر من 3.3 تريليون ليرة في عام 2022.
لكن ما دخل فعلياً هو 146 مليار ليرة في 2010، و44 مليار ليرة في 2015، و150 مليار ليرة في 2019، و810 مليار ليرة في 2022.

1172ad

وعليه، فإن الفاقد الضريبي وفقاً لهذا الحساب (وهنا نتحدث عن ضريبة الأرباح الحقيقية فقط، دون الحديث عن ضرائب الأجور والرسوم الجمركية والإنفاق الاستهلاكي) هو 52 مليار ليرة في 2010، و320 مليار ليرة في 2015، و832 مليار ليرة في 2019، ونحو 2.5 تريليون ليرة في 2022.
إذا قارنا هذه الأرقام مع الأرقام الفعلية التي تنفقها الدولة على الخدمات الاجتماعية، نلاحظ أنه إذا قمنا بإضافة الفاقد الضريبي إلى الإيرادات العامة للدولة فإن نسبة الإيرادات الضريبية هي في الغالب أكثر من 100% من إجمالي النفقات على الخدمات الاجتماعية (أنظر الشكل رقم 5)، أي أنه لو قامت الدولة بتحصيل الضرائب المستحقة لها لاستطاعت تحسين الخدمات الاجتماعية، وهنا نقول «تحصيل» وليس «فرض» ضرائب جديدة.

1172ae

لكن ما لم نتحدث عنه أيضاً هو أن الاقتصاد السوري يعاني من اقتصاد الظل، وهو جزء كبير غير مدرج أساساً في الناتج المحلي الإجمالي.
ولو جرى إدراج جزء منه في الناتج المحلي الإجمالي لكم أن تتخيلوا حجم الإيرادات التي يمكن أن تدخل الخزانة العامة للدولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1172
آخر تعديل على الإثنين, 06 أيار 2024 18:15