بيان الحكومة المالي لعام 2006 بناء الوهم على الطريقة السورية

ضمن مجموعة من المتغيرات الاقتصادية والسياسية الشديدة الحساسية في سورية صدر مشروع موازنة عام 2006 الذي كان من المفترض أن يمثل افتتاح مرحلة جديدة في الفكر المالي السوري كون بداية عام 2006 هو بداية تطبيق الخطة الخمسية العاشرة التي تعلن بدورها بداية مرحلة اقتصادية جديدة حسبما يروج لها، لكن المشروع جاء تكريسا للفكر القديم ذاته ولم يقدم أية إضافات جديدة على الواقع الاقتصادي والاجتماعي باستثناء بعض الآمال الجديدة التي تضمنها، وباستثناء بعض الأرقام المهدئة التي أوردها من خلال 35 مليار ليرة هي مقدار الزيادة عن مشروع موازنة عام 2005 والتي قد لا يكون لها أثر اقتصادي اجتماعي يذكر في نطاق الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتضخمة والمتزايدة للدولة وللمواطنين.هل جاء ت موازنة 2006 بجديد؟ وهل حملت أشياء جديدة بين خاناتها؟ وهل صيغت بهيكيلة جديدة كما يقال؟ أم أن لا جديد تحت الشمس.نناقش في هذا العدد جزءا من البيان المالي للحكومة على أن نكمل هذا النقاش في العدد القادم.

مما يلفت النظر في مشروع موازنة عام 2006 أنها موازنة متواضعة لا تزيد عن موازنة عام 2005 إلا بنسبة 7.6% فقط، وإذا حولنا هذه النسبة إلى رقم صريح وجدنا أن الزيادة بين موازنتي هذين العامين لا تتعدى 35 مليار ليرة وهذا الرقم لا يعبر عن زيادة حقيقية بسبب عدم ربطه بمعدلات التضخم المتوقعة في عام 2006 والذي يصعب التكهن بها حاليا وبالتالي فإن هذا الرقم رغم صغره سوف يصغر أكثر على يد معدلات التضخم القادمة، وبالتالي فإن التضخم قد يكون كفيلا بإفراغ الموازنة من دورها الوظيفي المرسوم لها أو تقليص ذلك الدور إلى الحدود الدنيا الأمر الذي سيشكل ضغطا اجتماعيا واقتصاديا جديدا على المجتمع خاصة إذا ما عرفنا أن تقرير صندوق النقد الدولي الذي نشر مؤخرا يشير إلى احتمال أن تبلغ نسبة التضخم في عام 2006 حوالي 9.6% وإذا كان هذا الرقم دقيقا فإننا أمام موازنة سلبية تماما.

يبتعد البيان المالي للحكومة السورية كثيرا عن لغة الاقتصاد والتخصص المالي أو عن لغة التحليل الاقتصادي فهو مكتوب ومصاغ في إطار العموميات والشموليات التي غالبا ما تكون أقرب إلى لغة البيانات الخطابية غير المحتوية على التحليل وغير المعنية بذكر الأرقام الحقيقية أو بلغة تلك البيانات التي تكون مطالبة ومعنية فقط بالتضخيم الإعلامي واللعب على الألفاظ والأرقام والأحلام معا. البيان المالي للحكومة السورية بيان لغوي سردي وتجميعي ومكرر عاما بعد عام، ويرتكب دائما الهفوات نفسها  ويقع في المطبات نفسها، ويحمل الهوية نفسها ولكي لا نطيل في وصف البيان المالي دعونا ننتقل إلى الشق العملي منه لإثبات ما ذكرناه عن البيان.

تضخيم وهمي للاستثمار

يورد البيان في فقرة قطاع الاستثمار أن إجمالي التكاليف الاستثمارية للمشاريع المرخصة على قانون الاستثمار رقم 10 بلغت حتى 30/9/2005 حوالي 233 مليار ليرة وهي تزيد عن مثيلتها في عام 2004 بمقدار 14% ومن هذه الأرقام يستنتج كتّاب البيان المالي بأن هذا "يدل على صوابية توجه الحكومة في توفير مناخ أفضل للاستثمار وخاصة توفير مقومات نجاح الاستثمار"، لكن الذي يتغافل عن ذكره البيان المالي هو عدد المشاريع الاستثمارية المنفذة فعليا حتى عام 2005 فالمشاريع المنفذة هي التي تدل فقط على صحة مناخ الاستثمار وهي التي تكشف عن الإضافات الحقيقية في الاستثمار الوطني لكن البيان المالي تجاهل ذكرها بالكامل علما أنه باستطاعة وزارة المالية وعبر اتصال هاتفي بسيط مع مكتب الاستثمار أن تحصل على تلك المعلومات وتذكرها بدقة في بيانها المالي ولكن السؤال الآن لماذا لم تفعل وزارة المالية ذلك؟ يبدو أن عدد المشاريع الاستثمارية المنفذة حتى عام 2005 هو عدد قليل جدا ولا تتجاوز تكاليفه عشرات المليارات من الليرات السورية بالمقارنة مع عدد المشاريع المشملة وبالتالي فلا مصلحة لوزارة المالية من ذكر الأعداد المتواضعة للمشاريع المنفذة والتي لا تدل على أي إنجاز حقيقي للحكومة، وذلك قياسا على أن عام 2004 قد شهد تنفيذ ثلاثة مشاريع استثمارية فقط على القانون 10 وبكلفة استثمارية بالعملة المحلية لم تتجاوز الـ320 مليون ليرة وأن عام 2003 شهد تنفيذ 17مشروعا كلفتها الاستثمارية بالعملة المحلية 2 مليار ليرة فقط ( بيانات مكتب الاستثمار نيسان 2005  ) وبالتالي فمن مصلحة وزارة المالية جعل رقم من حجم 233 مليار ليرة عملة متداولة بين الناس والاقتصاديين وربطه بمناخ الاستثمار لإظهار أن هناك إنجازا حكوميا كي يقف الجميع عنده ولتقول أن مناخ الاستثمار بخير مهملة في حساباتها تلك الشفافية المالية والإفصاح المالي عن الحقائق فالعبرة فيما ينجز لا في ما يشمل.

هل يوجد هيكلية جديدة حقاً؟

فكرة أخرى مخاتلة وملتبسة جدا يحاول البيان المالي تمريرها عبر سطوره، حيث يقول البيان المالي بأن موازنة عام 2006 قد أعدت " وفق هيكلية مختلفة نسبيا بحيث خصصت للاعتمادات الجارية ما نسبته 60.6% للاعتمادات الجارية و49.4% للاعتمادات الاستثمارية من مجموع اعتمادات الموازنة والسؤال الآن عن أي هيكلية جديدة يتحدث البيان إذا كانت هذه النسبة هي نفس نسب اعتمادات موازنة عام 2005 تماما ودون أي تغيير يذكر، فهذه النسب كفيلة بنفي أي تغيير جوهري في مشروع الموازنة ومن هذه النسب الساكنة فعليا يمكنا أن نشتق ونستنتج أن موازنة الدولة لعام 2006 ليس لها أي هوية اقتصادية أو مالية جديدة أبدا أو أي هوية متميزة عن الموازنات التي سبقتها في حين أن الحكومة قد حسمت وحددت هوية الاقتصاد ككل ولو نظريا وإعلاميا على الأقل وقالت بأن الاقتصاد السوري هو اقتصاد سوق اجتماعي، إن تركيبة موازنة عام 2006 لا تحمل أي دلائل أو مؤشرات اقتصادية نوعية أو متميزة تدل على الانتقال لهذا النمط الاقتصادي الجديد الذي اختارته الحكومة ويمكن التدليل على ذلك من عدة نواحي أولها أن نسبة الضرائب والرسوم المباشرة و وغير المباشرة إلى إجمالي موازنة عام 2006 لا تتجاوز 39% وأن نفس هذه النسبة في موازنة عام 2005 لا تتجاوز 39% أيضا من ناحية ثانية نجد أن نسبة الرواتب والأجور والتعويضات في مشروع موازنة عام 2006 يشكل ما نسبته 17% من إجمالي الموازنة مقارنة بـ16% في مشروع موازنة عام 2005 ومن ناحية ثالثة نجد أن إجمالي العجوزات في مشروع موازنة عام 2006 كان بحدود 47% من إجمالي حجم الموازنة في حين شكل في مشروع موازنة عام 2005 ما نسبته 48% من إجمالي حجم الموازنة (العجز الناتج عن زيادة أقساط الدين العام وأعباء شهادات الاستثمار وودائع التوفير والخسائر التجارية إلى العجز الحقيقي في الموازنة) هذا إضافة إلى أن فرص العمل التي يفترض البيان المالي للحكومة أنه سيحققها في عام 2006 هي أقل من فرص العمل التي افترض تحقيقها في موازنة عام 2005  بمقدار 1156 فرصة عمل وإذا مارسنا هنا نوعا من الرياضة الذهنية البسطة واقتنعنا بأن الحكومة جادة بأنها سوف تحقق 57 ألف فرصة عمل وافترضنا أن فرصة العمل تساوي وظيفة في القطاع العام الإداري أو الإنتاجي وأن وسطي الراتب المدفوع للموظف في عام 2006 هو 5 ألاف ليرة فقط عندها سنجد بأن كلفة هذه الـ57 ألف فرصة عمل خلال عام 2006 هي 3.5 مليار ليرة وهي ما يشكل 0.7% من حجم الموازنة العامة فقط وهي تساوي تماما النسبة في موازنة عام 2005، يضاف إليها أن مساهمة الدولة في تثبيت أسعار السلع المدعومة بقيت على حالها بين عامي 2005 و 2006 بحيث قدرت بـ25 مليار ليرة في كلا العامين مع العلم أن مكاتب هيئة تخطيط الدولة وزارة الاقتصاد تشهد هذا العام اجتماعات ونقاشات ودراسات مكثفة من أجل إلغاء الدعم عن العديد من سلع الاستهلاك الأساسية وفي مقدمتها الوقود والطاقة الكهربائية دون أن تبت بها بشكل رسمي بعد. هذا طبعا دون أن يذكر البيان كعادته عدد فرص العمل الحقيقية التي وفرتها الحكومة في العام السابق ودون أن يشير إلى معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي أو إلى أي رقم فعلي آخر تحقق في عام 2005.

أين هي الهيكلية المختلفة للموازنة التي يتبناها البيان المالي إذا؟ وفي أي النقاط تتقاطع الموازنة مع التوجهات الاقتصادية الجديدة للحكومة؟ أو بطريقة أخرى أي نموذج اقتصادي اجتماعي تخدم موازنة عام 2006؟ هل تخدم نموذج اقتصاد السوق أم نموذج الاقتصاد المخطط أم كلا النموذجين معا وكيف نستطيع إثبات ذلك؟ وكيف تختار الحكومة التوجه نحو نموذج اقتصادي جديد ضمن هياكل ونماذج مالية عامة قديمة وتقليدية؟ وبماذا يميز المواطن العادي موازنة هذا العام عن موازنة العام السابق؟ أمام هذه المعطيات المالية الثابتة بين عامين نجد أنفسنا أمام شك بأحد أمرين فإما أن تكون الحكومة قد روجت لشعار اقتصاد السوق الاجتماعي مع علمها أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لن يتغير بما ينسجم مع ذلك المصطلح أو أن موازنة الدولة تعد بطريقة لا علاقة لها أبدا بالتوجه الاقتصادي العام فمن المعروف أنه لكل بنية اقتصادية بنية مالية خاصة بها لكن هذا ما لم يظهره  مشروع موازنة عام 2006. فهل تشكل الموازنة العامة للدولة حالة اقتصادية محايدة ومستقلة عن الحالة الاقتصادية العامة وعن الحالة الاقتصادية للمواطنين؟ وهل يثبت هذا القص واللصق لمعطيات الموازنة والمكرر عاما بعد عام بأننا أمام عقلية جباة وليس أمام عقلية اقتصاديين ورجال مال؟

■ أيهم أسد

 

 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.