أربعــون عامــا علـى التأميــم هل تستطيع الحكومة (أو يحق لها) بيع القطاع العام أو عرضه للاستثمار؟؟

في بداية ثورة 8 آذار 1963، صدرت مجموعة من المراسيم التي دُعيت في ذلك الوقت بأنها تتسم بالميول الاشتراكية، منها تأميم المصارف التجارية الخاصة، وتأميم عدد من المؤسسات الصناعية الكبيرة. وبذات الوقت صدرت مجموعة من الاجراءات التي حاول الحكم من خلالها كسب رؤوس الاموال الخاصة ودفعها للاستثمار والاسهام في الحياة الاقتصادية. إلا ان هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح، بسبب رغبة اصحاب رؤوس الاموال الخاصة بعدم التخلي عن دورهم السياسي، ومخالفتهم لما كان يرفعه الحكم الجديد من شعارات سياسية.

ومنذ بداية عام 1964، عملت البرجوازية الرأسمالية على الضغط على الحكومة، فأغلقت بعض المؤسسات الصناعية ابوابها بحجة عدم توفر المواد الاولية، وسرح عدد من العمال، وامتنع القطاع الخاص عن أي استثمار جديد، وبالتالي فقد ادى ذلك الى انخفاض الانتاج الصناعي، وانتشار الكساد، ولم تسفر اجراءات الحكومة عن أي تقدم. وزاد من تفاقم الوضع نزوح اموال طائلة الى الخارج. مما انعكس على الاوضاع الاقتصادية بوجه عام، فانخفضت الصادرات وزاد العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وارتفعت الاسعار الداخلية، وتفاقمت المصاعب المالية والنقدية وارتفعت معدلات التضخم.

ورافق ذلك اضراب التجار، مما دفع الحكم الى اتخاذ مجموعة من الاجراءات، اهمها صدور مراسيم عام 1965 التي اممت بموجبها كلياً او جزئياً (115) مؤسسة صناعية مختلفة. وعلى وجه التفصيل فقد اممت 21 مؤسسة تأميماً كلياً بلغت رساميلها 111.7 مليون ل.س من بين هذه المؤسسات خمسة مصانع للاسمنت ومصنع للزجاج ومعمل كبريت، ومصنعان للسكر، ومعمل للمعلبات الغذائية (كونسروة) ومعمل البيرة بحلب، وعدد من المؤسسات الكبيرة نسبياً المنتجة للزيت النباتي والخيوط والانسجة والمواد الصناعية.

كما اممت بنسبة 90%(28) مؤسسة بلغت رؤوس اموالها 42.6 مليون ل.س (وهذا يعني ان 10% من رؤوس الاموال بقيت ملكية خاصة لاصحابها ) ومن بين هذه المؤسسات مصانع لانتاج النسيج والمعلبات والسجاد والجلود.

واممت 66 مؤسسة صناعية تنتج الادوات المنزلية والاحذية والمواد الطبية والمعلبات والبضائع الاخرى بمقدار 75% وبلغت رؤوس الاموال لهذه المؤسسات 52.5 مليون ل.س.

 وبلغ عدد العمال في جميع هذه المؤسسات المؤممة، من جديد، قرابة 12 الف عامل.

والى جانب هذا اممت 21 محطة كهربائية في مختلف مناطق القطر، ثم اممت احدى عشرة مؤسسة صناعية اخرى تأميماً جزئياً. وصدر بعد ذلك مرسوم جمهوري  بتأميم جميع محالج القطن في البلاد وعددها57 محلجاً.

اما السبب في تأميم بعض المؤسسات الصناعية تأميماً جزئياً، فيعود الى رغبة السلطة في ذلك الوقت الى التعاون مع اصحاب رؤوس الاموال الصغيرة والمتوسطة، والمحافظة على الكوادر التقنية - الهندسية المؤهلة الموجودة في المعامل.

وبموجب مراسيم التأميم تحولت اسهم جميع الشركات المؤممة الى سندات الى الدولة تستوفى خلال 15 عاماً بفائدة سنوية قدرها 3% .

ويبلغ متوسط عدد العمال في المؤسسات المؤممة كلياً ما يزيد عن 260 عاملاً، في حين يقارب هذا العدد المائة في المؤسسات المؤممة بنسبة 90% ، ويقارب الخمسين عاملاً في المؤسسات المؤممة بنسبة 75% إلا ان التأميم الحاصل في عام 1965 (قبل اربعين عاماً)للمنشآت الصناعية له تاريخ سابق على ذلك، ومن هذا التاريخ يمكن استخلاص العبر والدورس، ففي بداية عهد الوحدة، وبعد ان أيقن النظام بانه لايمكن الركون الى الرأسمالية الوطنية، بعد ان كان يطرح الاشتراكية التعاونية كعنوان لمسيرته الاقتصادية والاجتماعية، وبعد ان زادت الفجوة بينه وبين المواطنين بسبب ممارسات النظام المباحثي. فقد حاول النظام الوحدوي العودة الى القسم الاعظم من الشعب بالتمسك بالشعار الاشتراكي، الذي فرض عليه التوجه نحو اتخاذ اجراءات دعيت في ذلك الوقت بالاشتراكية، فأصدر الرئيس عبد الناصر بتاريخ 20/7/1961 القرارات التي سميت في حينه بالقوانين الاشتراكية، فوجه ضربة موجعة للرأسمال الخاص، وكانت هذه القرارات بمثابة انعطاف هام في تاريخ العلاقات الانتاجية، وأداة في زعزعة مواقع الرأسمالية الصناعية والمالية والتجارية. كما كانت منعطفاً هاماً في النضال السياسي في سورية لمسناه واضحاً في عهد الانفصال على النحو الذي سنبينه لاحقاً.

تضمنت المراسيم الجمهورية رقم 117 و 118 لعام 1961، التأميم الكلي او الجزئي لجميع المصارف وشركات التأمين وخمس عشرة شركة صناعية. ثم صدر المرسوم 119، الذي تضمن تأميم 12 شركة صناعية. وحظر المرسوم على كل شخصية طبيعية او قانونية ان تمتلك اسهماً تزيد قيمتها عن 100 الف ل.س. وقيمة الاسهم الزائدة في يد كل شخصية، تؤول الى الدولة.

وبلغت الرساميل التي اصابها التأميم ما يزيد عن 170 مليون ل.س، وشملت المراسيم جميع الشركات الصناعية الكبيرة من بينها شركات مثل الخماسية والشهباء والدبس في صناعة النسيج وسابيك في الصناعة الغذائية.

وبالرغم من ان معظم الشركات المؤممة، لم تؤمم كلياً، بل جزئياً، فإن المرسومين 118و 119 اعطيا الدولة الحق في الاشراف على نشاط هذه الشركات في حقل الانتاج وترويج المنتجات.

لقد نُظر الى التأميم في عهد الوحدة، على انه خطوة تقدمية، إلا انه، نتيجة للظروف السياسية السائدة، فقد هذا المعنى، اذ اثبتت الوقائع اللاحقة ان التحولات الاجتماعية الجذرية، لا يمكن ان تتم بمعزل عن اصحاب المصلحة الحقيقية فيها. كما اثبتت هذه الوقائع ان هذه التحولات ترتبط على نحو مباشر بالديمقراطية، وقد جرى التأميم في سورية ومصر في مرحلة اتسمت بالاضطراب وعدم الوضوح، وخاصة تهميش الحياة السياسية وتمركزها حول شخصية الرئيس عبد الناصر، الذي أُقيم حوله جدار من الانتهازيين ورجال المباحث الذين جاهدوا في سبيل إبعاده عن الناس. مما سهل لاعداء الوحدة (في الداخل والخارج) مهمة ضربها وتحقيق الانفصال.

وفي مرحلة الانفصال، ازداد الغليان الشعبي ضد اجراءات الحكومة الانفصالية، في الوقت الذي ازداد فيه تكاتف القوى الانفصالية دفاعاً عن وجودها، وفي هذا الاطار، اجتمع ممثلو الغرف التجارية والصناعية والزراعية في شهر تشرين الثاني 1962 في مدينة حلب. واصدروا مجموعة من التوصيات، ذات التوجهات الاقتصادية الليبرالية، اهمها: رفض سياسة التأميم، وحماية الملكية الخاصة واحترامها، وتشجيع المبادرة الفردية، وامتناع الدولة عن المساهمة برأسمال المصارف. والغاء تأميم شركات التأمين، وتشجيع الاستثمارات العربية والاجنبية. وقد اتخذت هذه التوصيات اساساً لنشاط الحكومة التي شكلها خالد العظم في ذلك الوقت، إلا أن حكومة الانفصال، لم تجرأ على الغاء التأميم مباشرة، بل انتظرت لما بعد اجراء الانتخابات النيابية. مما سبب في تزايد السخط بين فئات الشعب الواسعة، بما في ذلك الجيش، الامر الذي مهد لقيام ثورة الثامن من آذار 1963.

وقامت على الاثر المطالبات الشعبية لإلغاء الاجراءات التي اتخذتها حكومة الانفصال فيما يتعلق بالقطاعات الاقتصادية المختلفة، ومن بينها الصناعة، وجاء التأميم، (قبل اربعين عاماً) في خضم الضغوط الاقتصادية الداخلية والخارجية، استجابة للمطالبات الشعبية، وخاصة تلك المظاهرات الصاخبة التي خرجت بدمشق منادية (أمم ...أمم يامجلسنا) والمقصود مجلس قيادة الثورة.

إن قراءة التاريخ لا غنى عنها للسياسي كما للاقتصادي، والاقتصادي خاصة يهمه قراءة الاحداث الاقتصادية عندما يحاول فهم مـا يجــري:

- ان التأميم الذي حصل عام 1961 في عهد الوحدة، كان استجابة للضغوط الشعبية التي كانت تطالب باجراءات تجاه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والتي كان اصحاب المصالح يقفون سداً منيعاً ضد اتخاذها.

- الغاء التأميم الذي حصل في زمن الانفصال جاء استجابة لمصالح اصحاب رأس المال، ودعاة الاقتصاد الحر. مما أسهم في تهيئة المناخ السياسي الملائم للانقلاب على الانفصال.

- التأميم الذي اجرته ثورة الثامن من آذار، قبل اربعين عاماً، جاء استجابة للمطالب الشعبية، ومن خلال برنامج عملية التحويل الاشتراكي.

واليوم، يأتي من يطالب بالخصخصة، وبيع القطاع العام لاصحاب رأس المال، بدعوى الخسائر التي تتكبدها شركاته. والتي وقفت الحكومات المتعاقبة حائرة تجاه عملية إصلاحه.

- القطاع العام الصناعي قام بدور اقتصادي- سياسي - اجتماعي هام. فقد وفر العمل لعشرات الآلاف من العمال، وحقق إنتاجاً صناعياً مهماً. واسهم في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

صحيح ان هناك اخطاء، وهناك خسائر. لكن الصحيح ايضاً ان هذه الاخطاء ليست مستعصية على الحل، وان هذه الخسائر بالامكان تجاوزها. عندما تتوفر الإرادة.

 لكن الاهم من ذلك كله، ان القطاع العام، بوجه عام، يقوم بدور وطني مهم، ولا يمكن الاستغناء عنه، فضلاً عن دوره الاقتصادي والاجتماعي وبدلاً من التركيز على طرحه للاستثمار، او بيعه، يجب التركيز على اصلاحه. وبذات الوقت فقد اصبح هناك من القوانين والقرارات ما يزيل جميع العوائق من وجه الاستثمار الخاص. لا بل هناك ما يمنحه العديد من المزايا والتسهيلات. فإذا كان هناك نية حقيقية للقطاع الخاص بأن يزيد من استثماراته، فلماذا لا يتجه الى اقامة مشروعات جديدة بدلاً عن شراء او استثمار المشروعات القائمة التابعة للقطاع العام؟

اذن فالمسألة ابعد من ذلك، ان المقصود بتصفية القطاع العام، هو إنهاء مرحلة، والغاء رموزها، لا بل اضافة الى ذلك اشاعة روح التشفي والانتقام، واستعادة الماضي التليد. تحت شعار من الاوهام والنوايا الخبيثة، والرهان الخاسر سلفاً على رأس المال الاجنبي.

البلد مهدد، ويتعرض لضغوط هائلة، ويحتل العدو جزءاً عزيزاً منه، وهو بحاجة للجميع، بحاجة لحشد الجهود والموارد والامكانات من اجل العبور الى اقامة الدولة العصرية والارتقاء بمستوى المعيشة من جهة وتحرير الارض المحتلة من جهة ثانية.

والاقتصاد السوري، يتعرض لمشكلات كادت ان تصبح مستعصية بسبب عدم التصدي لها بواقعية ونزاهة، خاصة واننا مقبلون على ايام اصعب، وفي هذه الاجواء يخرج علينا استطلاع تتداوله بعض الجهات الاعلامية، بأن 68% من الشعب في سورية يؤيدون الخصصة.

ولا يقدم لنا جهابذة الاستطلاع على ماذا اعتمدوا في ذلك، وماهي العينة التي اختاروها لاستطلاع الآراء، وما حجم هذه العينة ومن تُمثل؟ وتُرى كم عدد المستفتين الذي يعروفون ما هي الخصخصة وماهي ابعادها وضمن أي برنامج سياسي - اقتصادي تأتي؟

في الوقت الذي كان القطاع العام يبني المصانع، حتى فاق حجمه ورأس ماله اضعاف ما تم تأميمه، في هذا الوقت كان هؤلاء يهربون الاموال خارج القطر ويحجمون عن الاستثمار الوطني. وفي الوقت الذي كان القطاع العام يوظف العمال، كان هؤلاء يطردون العمال ويمتنعون عن تسجيلهم في مؤسسة التأمينات الاجتماعية. وفي الوقت الذي كان القطاع العام يدفع الضرائب كان هؤلاء يتهربون من دفع الضريبة، ويفسدون جهاز تحقق الضريبة وتحصيلها بالرشاوي فيسهمون في إفساد المجتمع.

لكن هذا لا ينطبق على الجميع، فهناك من رجالات القطاع الخاص، الذين استمروا صامدين في وجه الصعوبات والبيروقراطية، وبنوا المصانع واقاموا الاعمال، ولا شك بأن هناك العديد من ينتظر دوره من افراد القطاع الخاص للاسهام بعملية البناء والتنمية، وبعد تأكدهم من توفر المناخ الاستثماري المناسب، وازاله العوائق.

والاقتصاد السوري، بوضعه الراهن، وبمشكلاته التي اصبحت واضحة، يحتاج للجميع من اجل النهوض، ولعل إقرار، اقتصاد السوق الاجتماعي للتوجه الذي عليه ستبنى الخطة الخمسية العاشرة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، هو الذي سيساعد فعلاً على مواجهة المشكلات وحلها. ومن هذا المنطلق فالامر يحتاج الى برامج تنفيذية عملية تخرجنا من دائرة الجمود والركود والتردد الى دائرة العمل والانتاج والابتكار. والمحافظة على (اصولنا الانتاجية) وتطويرها في القطاعين العام والخاص.

من هذا كله.. ارى الخروج بالاستنتاجات التالية:

اولاً: القطاع العام الاقتصادي (بما فيه الشركات المؤممة) هو جزء اساسي من الاقتصاد الوطني، وفي هذه المرحلة من التطور، لا بد من تحديثه وتدعيمه وتفعليه. وهذا لا يمكن ان يتم لا في ضوء اطلاق الشائعات والتصريحات حول الخصخصة، ولا في ظل الحديث عن التوقف عن الاستثمار العام.

ثانياً: ان عملية التطوير والتحديث يجب ان تتناول وعلى التوازي مشروعات ومؤسسات القطاعين العام والخاص. وهنا لا بد من السعي الى حل المشكلات العالقة والغاء المعوقات من طريقهما.

يبقى هناك السؤال الذي يلح علينا، خاصة بعد مرور 40 عاماً على التأميم، وهو موجه الى الاقتصاديين والسياسيين والى رجال القانون: هل تستطيع الحكومة ان تخصخص مؤسسات القطاع العام من الناحية الدستورية والقانونية؟ بمعنى هل تملك هذا الحق؟ ذلك ان الحكومة لا تملك المال العام، بل هي مؤتمنة عليه، فهل يحق لها التصرف فيه؟

علماً ان الخصخصة تشمل:

- البيع

- العرض للاستثمار

وبما في ذلك منح عقود للقطاع الخاص (المحلي والاجنبي) لإدارة هذه المؤسسات. وذلك وفق تعريف البنك الدولي للخصخصة.

 

■ د‌.منير الحمش