بين مطرقة الأجور «الشحيحة» وسندان الإنفاق «المتزايد».. المواطن خاسر دائماً!

هل تساءلت حكومتنا يوماً عن حجم الفجوة الحاصلة بين متوسط إنفاق الأسرة السورية والدخل المتاح لها، والتي يتوقف على أساسها انخفاض أو ارتفاع المستوى المعيشي لهؤلاء السوريين؟

هناك شرائح اجتماعية كبرى تراوح معيشتها بين الفقر العادي والمدقع، وبشكل خاص بعد إطلاق المكتب المركزي للإحصاء بياناته في العام 2009 القائلة إن وسطي إنفاق الأسرة السورية يتراوح بين 25– 33 ألف ليرة شهرياً، وهذه البيانات تشير اليوم أيضاً إلى أن متوسط الأجر الشهري للعاملين عموماً في سورية خلال النصف الأول من العام 2009 استقر عند حدود 11 ألف ليرة شهرياً، هذا المتوسط الذي يجب أن يكفي حاجات أسرة سورية مؤلفة من 5 أشخاص، لأن عدد المشتغلين في سورية يبلغ 4،9 مليون حتى النصف الأول من العام 2009، أي أن 21% فقط من السوريين يعملون وفقاً لبيانات مسح قوة العمل الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء، وهذا يتطلب ضرورة فتح باب النقاش على مصراعيه مجدداً ليس لطرح حجم هذه الفجوة فقط، بل يستدعي ضرورة البحث عن سياسات اقتصادية تنطلق من حاجات المواطن السوري أولاً وليس آخراً، أو تغيير هذه السياسات الانفتاحية التي تزيد الفجوة يومياً بين حجم الدخل المتوفر والإنفاق المطلوب..

الفارق بين حجم الدخل وإنفاق السوريين معلن إذاً ومسلم به بالأرقام، ولكن هذه الأرقام بحاجة إلى تدقيق، فاستناداً للأرقام القياسية لأسعار التجزئة في سورية حسب دورات بحث ميزانية الأسرة 1996 – 1997، فإن المواد الغذائية كانت تشكل 60% من سلة أسعار المستهلك، والمقدرة بأسعار المواد الغذائية اليوم بـ14400 ل.س، وذلك استناداً إلى تفاصيل الوجبة الغذائية التي أقرها مؤتمر الإبداع الوطني والاعتماد على الذات الذي دعا إليه الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1987، بينما تبلغ تكلفة الحاجات الضرورية الأخرى، بما في ذلك إيجار منزل حوالي 9600 ل.س، والتي تشكل 40% من حجم سلة الاستهلاك المقدر بـ24 ألف ليرة سورية شهرياً، أي أن حجم هذا الفارق الناتج (13 ألف ل.س) – المتطابق مع الحسابات الحكومية – يصل إلى 117% مقارنة مع الدخل المتاح حالياً، ولكن هذا لا يعكس الحقيقة لسبب بسيط وهو أن تكلفة الإيجار وحده تصل إلى 30% من حجم سلة الاستهلاك انطلاقا من أسعار اليوم، بينما لا تشكل هي سوى 15% من السلة السورية المعتمدة، أي أن هناك خللاً في تقسيمات سلة أسعار المستهلك المعتمدة لدينا، وهذا سينعكس بالتالي على مجمل مكونات السلة الاستهلاكية وحجمها بالكامل.

وإذا أردنا الانطلاق من تقسيمات سلة الاستهلاك عالمياً، حيث إن الأسرة تصرف 40% على حاجاتها الغذائية، و60% على الحاجات الأخرى (غير الغذائية)، واستناداً إلى 14400 ل.س التي تشكل إنفاق الأسرة السورية على الحد الأدنى من الغذاء، فإن إنفاق الأسرة السورية على المواد غير الغذائية يجب أن يبلغ 21600 ل.س (60% من مجمل سلة الاستهلاك)، وهذا يوصلنا إلى أن متوسط إنفاق الأسرة الضروري على الحاجات الغذائية وغير الغذائية يكون 14400 + 21600 = 36 ألف ل.س، أي أن حجم الفجوة بين الدخل والإنفاق تصل إلى 25 ألف ل.س، أي نحو 227% مقارنة بالدخل الحالي، وهذا يتطلب بالتالي زيادة كتلة الرواتب والأجور للعاملين في سورية بنسبة تصل إلى أكثر من 200% لردم الفجوة الإنفاقية الضرورية، مفترضين حفاظ الأسعار على استقرارها في الأسواق السورية، وهذا مستحيل بتقديرنا إذا لم تفعل الحكومة وأجهزتها الرقابية وقراراتها للحفاظ على استقرار الأسعار بعد كل ارتفاع للرواتب...

إن التدليل على انخفاض كتلة الرواتب والأجور ليس فقط من خلال اعتماد الفرق بين الرواتب والإنفاق، بل الوضع الطبيعي، كما هو في الكثير من دول العالم، يفترض أن تشكل كتلة الرواتب والأجور 40% من الناتج المحلي الإجمالي، لكي يكون هناك توازن بين كتلتي الإنفاق والأجور، فما هي الحال لدينا إذاً؟!

استناداً إلى أن هناك 5 مليون مشتغل في سورية الذين لا يتعدى متوسط أجرهم الشهري 11 ألف ليرة فقط، فإن هذا يعني أن كتلة الرواتب والأجـور تساوي 5 مليون × 11 ألف = 660 مليار ليرة (13 مليار دولار)، وإذا علمنا أن الناتج المحلي الإجمالي في العام 2009 بلغ نحو 2400 مليار ليرة، فإن هذا يعني أن الرواتب لا تشكل في أحسن حالاتها 27% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يدلل بشكل لا يدع مجالاً للشك على عمق الفجوة الكبيرة بين الرواتب المعتمدة والمطلوبة..

يبين هذا الجدول حجم الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد مقوماًُ بتعادل القوة الشرائية بالدولار الأمريكي، حيث احتلت سورية المرتبة 107 بين 177 دولة في العالم، فهذا التقرير وعلى رغم معرفتنا أن أرقامه لا تعبر عن التوزيع الفعلي للثروة في هذه البلدان، بل إنها تشكل الإطار النظري للتوزيع المفترض فقط، إلا أنه يعكس بكل تأكيد الفارق الكبير بين ما يجب أن يحصل عليه المواطن السوري من الناتج المحلي وما يحصل عليه أكثرية السوريين فعلاً على أرض الواقع، والذي لا نجد له مبرراً سوى التعمق والاختلال الواضح في توزيع الثروة لدينا المتزايد يوماً بعد آخر، حيث ساهمت السياسات الاقتصادية المتبعة في توسع هذا الاختلال وهذه الفجوة، كما أن هناك فارقاً غير مبرر بين حصة الفرد السوري من الناتج المحلي ونظرائه في الدول الأخرى، والتي تصل إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بتركيا التي قد نتفهم تفوقها علينا لتمتعها بالكثير من الموارد التي لا نملكها، لكننا لابد أن نتساءل عن سبب ارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في لبنان وتونس والأردن مقارنة بالفرد السوري، وهم الذين لا يمتلكون الموارد الطبيعية (النفط مثلاً) التي ينعم بها اقتصادنا، ولا الموارد البشرية المتاحة التي تعجز حكومتنا العتيدة حتى اليوم عن تأمين حقهم في فرصة العمل المناسبة..