القطاع العام والخصخصة.. والهروب من الحقيقة

يستمر فريق عريض في الحكومة وخارجها في إلقاء اللائمة على القطاع العام، وفي تحميله المسؤولية عن فشل مشاريع التنمية والتطوير في البلاد بسبب قلة مرونته وانتشار الفساد والهدر في قطاعاته المختلفة، ويتم الانطلاق من هذه المقولة للترويج للخصخصة التي تمتد مشاريعها إلى عشرات القطاعات الحيوية، ولولا اصطدام هذه المشاريع بالبنى التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية السورية غير المعدة لتحولات كهذه، لكانت الحكومة قطعت أشواطاً أبعد في هذا الاتجاه. ولكن ماذا عن القطاع العام نفسه؟

يمكن القول إن القطاع العام منخور فعلاً بالفساد وسوء الإدارة والبيروقراطية، وهو عاجز في ظل وضعه الراهن عن النهوض بالمهمات الملحة التي تتعلق بصيانة مصالح المجتمع السوري، إلا أن تعليق الاتجاه إلى الخصخصة على هذه الشماعة، وبأسلوب الخطاب الذي يتبعه أغلب منظري الليبرالية الجديدة، يوحي بأن الخصخصة ستحل جميع هذه المشكلات، وتنقل البلاد والعباد من حال إلى حال، وهو ما يدعو إلى طرح جملة من الأسئلة المشروعة: ترى هل تهدف الخصخصة إلى إلغاء القطاع العام من الوجود؟ أو بالأصح هل يمكن إلغاء القطاع العام أصلاً في دولة من الدول؟ ألن يبقى هذا القطاع العام الذي يرمى بأبشع الأوصاف من جانب بعض القائمين عليه موجوداً للإشراف على مقدرات البلاد؟

مما لا شك فيه أن إدارات الدولة باقية على الرغم من تغير شكل ونطاق مهماتها بالتحول إلى نهج ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، ولا شك في أن ما يعتريها من قصور لا يزال مستمراً، بل وفي تزايد مستمر، وبالتالي فإن أية حلول سواء كانت بالخصخصة أو بغيرها لن تغير شيئاً من الواقع المتردي الذي تعيشه البلاد، ذلك أن الخصخصة نفسها تحتاج إلى إدارات وجهات عامة تتمتع بالكفاءة والنظافة كي تتمكن من الإشراف عليها بشكل سليم، وإلا فإنها ستكون خصخصة عشوائية ومشوهة وغير متوافقة مع متطلبات اقتصاد السوق الاجتماعي نفسه (كما هو حاصل فعلاً)، الذي تعلن الحكومة عن تبنيها له صباح مساء.

تشير أولى تباشير الخصخصة بكل وضوح إلى النتائج التي سبق ذكرها، ذلك أنها خصخصة غير موجهة إلا لضرب القطاع العام، وفيها الكثير من الارتجال وعدم التماسك بشكل مقصود، لأنها لا بد أن تمر في قنوات الجهات العامة نفسها التي تتهم بالقصور، والتي يبنى كل الاتجاه إلى الخصخصة على قصورها هذا. وهكذا فإن إصلاح الإدارات العامة هو الممر الإجباري الذي لا بد أن تمر عبره أية تحولات اقتصادية أو تعديلات تشريعية إذا ما أريد لهذه التحولات أن تكون مجدية وبناءة، ومن ناحية أخرى فإن المشكلة لم تكن يوماً في النهج الاشتراكي نفسه ليتم التراجع عنه، وإنما كانت في الشكل المشوه لتطبيقه، وفي الفساد والفشل الذي ساد القطاع العام وأوصله إلى ما هو فيه، لأنه إذا كان الفساد وقلة المرونة من السمات الأساسية التي يتميز بها القطاع العام السوري، فإنها ليست من سمات القطاع العام بشكل مطلق، ولا يجوز أن تكون الذريعة التي يمر عبرها دعاة الخصخصة.

يعد العمل على حل مشكلات القطاع العام المهمة الأولى التي تقع على عاتق القائمين عليه، وأما التذرع بها لإطلاق يد القطاع الخاص على حساب القطاع العام دون تحريك ساكن في مواجهتها، فإنه ليس إلا هروباً من الحقيقية، وتهرباً من الواجبات، كما أنه يضع البلاد برمتها على طريق نقل المشكلة إلى مربع جديد يكون فيه الفاسدون في القطاع العام، وأصحاب رؤوس الأموال في القطاع الخاص شركاء في استنزاف مقدرات البلاد.