وجه من أوجه الفساد..  مئات ملايين الليرات تصرف على دراسات تطوير الشركات.. وتقدم بالمحصلة للقطاع الخاص
نزار عادلة نزار عادلة

وجه من أوجه الفساد.. مئات ملايين الليرات تصرف على دراسات تطوير الشركات.. وتقدم بالمحصلة للقطاع الخاص

يومياً نطالع أخباراً عن اجتماعات في وزارة الصناعة حول واقع الصناعات الكيماوية، أو واقع صناعات الغزل والنسيج، أو صناعات المواد الغذائية، وتؤكد قرارات هذه الاجتماعات على ضرورة النهوض بواقع هذه الصناعات، وآخرها كان مع المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، حيث أكد خلال الاجتماع الأخير نائب وزير الصناعة محمد سمَّاق على أهمية النهوضبهذه الصناعة، معتبراً أن حل مشكلات الشركات يجب أن لا يكون على حساب العامل، موضحاً أن لا إصلاح القطاع العام المنتهي عملياً في 15/12/2011، ولا مقررات هذه اللجنة، سيصبحان قانوناً مستقبلاً.

لجان بالجملة

هكذا تتشكل لجنة بعد أخرى لإصلاح القطاع العام الصناعي، وتصدر قرارات، ولكن يتعثر التنفيذ، وتبقى القرارات حبراً على ورق، بينما تتهاوى شركات القطاع العام واحدة تلو الأخرى، وهنا ما ادهشنا، هو طلب وزارة الصناعة «التفكير جدياً بتغيير وضع الإدارات الحالي، لأن الوزارة ستقوم بتقييم إداء كل الأدوات القائمة، وأن التقييم سيكون على أساس النتائج، وعلىالإدارات تنفيذ ما التزمت به»، ألا يبدو هذا الطلب غريباً في ظل تشريع متخلف كما يقول نائب وزير الصناعة!

 

مشكلات مزمنة

بالطبع يعاني قطاع الغزل والنسيج من جملة من المشكلات، والتي نحاول تلخيصها بالعناصر الآتية:

ارتفاع التكاليف بسبب عدم تحقيق الخطط الإنتاجية.

غياب عمال الإنتاج المتكرر.

قدم آلات الإنتاج التي يصل عمر بعضها إلى 50 عاماً، وبالتالي يكون قد انتهى عمرها الافتراضي منذ عشرات السنين.

وجود المنافسة الخارجية للمنتج الوطني في ظل عمليات الانفتاح الاقتصادي المتسرعة في سورية.

نقص الكوادر التسويقية أو عدم وجود هذه الكوادر أصلاً، إن لم نقل إن هناك غياباً تاماً للسياسات التسويقية لدى أغلب مؤسسات وشركات القطاع العام.

 

دور تخريبي

القضية الأبرز التي تقف في وجه تطوير قطاع الغزل والنسيج، هو تغلغل الفساد، وهو جزء من حالة يمكن تعميمها على غيره من القطاعات الاقتصادية، إلا أن هذه القضية لم تلحظ من جانب نائب وزير الصناعة، ولا من جانب الحكومات السابقة ولا حتى الحكومة الحالية.

نهب القطاع العام بشكل مبرمج ومنظم من خلال العقود، ومن خلال المناقصات، وفض العرض، ومن خلال استقدام تكنولوجيا متخلفة لأكثر الشركات، كما لم تلحظ الجهات الوصائية نشاطات السماسرة على أبواب الشركات الإنتاجية الكبرى، بدءاً بمحاولة الحصول على دفتر الشروط، وطلب العروض، وانتهاء بالدس على القرار..

 الوقائع التي بين أيدينا تؤكد بشكل جلي أن النسبة الأكبر من مدراء هذه المؤسسات، والذين كانوا يديرون شركات القطاع العام، هم الآن يستخدمون خبرتهم، للحصول على امتياز السمسرة لمصلحة الشركات الأجنبية، والتي تعرفوا عليها من خلال عملهم في  شركات القطاع العام، وخطورة هذه الظاهرة ليست في هوامش الأرباح والعمولات التي يتقاضاها هؤلاء فحسب،وإنما في الدور التخريبي الذي يلعبونه ضد القطاع العام.

 

هكذا تفاقم الفساد بالمؤسسات!

سألت مدير أبرز الشركات الإنتاجية العاملة: لماذا لم تنفذ شركات عامة عديدة خططها الاستثمارية؟! فقال المدير من لا ينفذ الخطة الاستثمارية يجب أن يكافأ لا أن يحاسب على التقصير، وعندما استفسرت عن أسباب ذلك، فأجاب: لم ينفذ يعني ذلك أنه لم يسرق!!

هكذا تفاقم الفساد في الشركات والمؤسسات العامة، ولا يزال يتفاقم، وتراكمت الأموال نتيجة النشاطات الطفيلية المقطوعة الصلة بتطور الاقتصاد الوطني، بل وتحولت هذه النشاطات إلى معاول هدم في الاقتصاد الوطني، وتحولت السياسة الاقتصادية مع الحكومة خاصة إلى تغذية النشاطات المتطفلة التي أدت لجملة من الاختلالات، وطغى نهج التغطية على الأزماتوالحقائق، وعلى الفساد الحقيقي الآخر.

والأخطر من كل ذلك، هو تصريحات وزراء ومدراء في الحكومة السابقة عن ضرورة كشف الفساد وإيقافه، وكانت تصدر قوائم بأسماء العمال والموظفين الذين أحيلوا إلى التفتيش، وتم صرفهم من الخدمة مثلاً:

وأصدر رئيس الوزراء السابق ناجي العطري بتاريخ  2005/10/11 تعميماً إلى كل الوزراء يقول فيه: «يرجى العمل على وضع الآلية المناسبة لاستئصال مظاهر الفساد في المفاصل الإدارية التابعة لوزارتكم والجهات التابعة لها وانتقاء المفاصل الإدارية من ذوي الكفاءة والنزاهة».

 

إدارات فاسدة لاجتثاث الفساد

عمم هذا الفرمان، وفرمانات أخرى عديدة على الإدارات وجميع المدراء العامين، والوزراء طلبوا من المدراء إرسال العمال الفاسدين، وبالسرعة الكلية ليصار إلى تسريحهم، وهكذا أوكلت الحكومة السابقة لبعض الإدارات الفاسدة التخلص من الفساد.

لم يجد رئيس الوزراء الفساد إلا بين العمال، وتغاضى عن فساد المناقصات والشركات والتعهدات في القطاع الإنشائي، وعن صفقات الاستيراد والتصدير، وكذلك عن فساد المدراء الذين نهبوا وسرقوا ودمروا المنشآت العامة خلال سنوات طويلة، وبهذا نجد أن كل الجهات الوصائية تغاضت عن الفساد الخطير الذي أوصل شركات عديدة في القطاع العام إلى الانهيار، وإلىخسارة مليارات الليرات السورية.

 

الفساد الأكبر

الفساد الكبير هو الأكثر أهمية، لأنه يستحوذ على %85 من فاتورة الفساد الإجمالية، ومثال هذا النوع من الفساد يتجسد بشركة حمص للغزل والنسيج والصباغة، والتي كانت تنتج أكياس الطحين، وتبلغ تكلفة الكيس الواحد 60 ليرة سورية، بينما يباع بنحو 16 ليرة سورية، لكنها تركت لمصيرها تغرق عاماً بعد عام دون تطوير أو تحديث أي من خطوط إنتاجها، حيث يبلغعمر آلاتها الآن أكثر من 65 عاماً، ووصلت خسارتها إلى مليارات الليرات حالياً، وقد درست مشاريع عديدة لإنقاذ هذه الشركة، ووصلت تكلفة كل دراسة إلى ملايين الليرات التي كانت تصرف على اللجان، والمدراء، والخبراء، وفي النتيجة، فشلت كل تلك الدراسات، أو الأفضل أن نقول، إنه جرى إفشال جميع المشاريع التطويرية لهذه الشركة، وبعض  تلك المشاريع بقيحبيس الأدراج.

 

مشاريع على الورق!

مشروع مطبعة دائرية، وتم توقيع العقد، وألغي من  المؤسسة عام 1986 بكتابها رقم 5070 تاريخ 31/5/1986.

مشروع خط البياض منذ عام 1998، ودرس المشروع واتفق عليه، ولكنه ألغي من جانب المؤسسة.

مشروع غزل العوادم، ألغي من جانب وزارة الصناعة في عام 2002.

مشروع الجينز الأساسي، وهو ألغي أيضاً.

مشروع النسيج الخامي الذي انتهت دراسته عام 2005، وتم فتح كفالة التأمينات النهائية من المعارض بتاريخ 4/5/2005، وكان مصيره الإلغاء.

جميع هذه المشاريع كان يجري الحديث عن تمويلها بقروض وتسهيلات من البنك الإسلامي، ومن إيران والصين، السؤال المطروح أمام عمليات الإلغاء المتعمدة لتلك المشاريع: لماذا شكلت لجان لهذه المشاريع؟! ولماذا درست هذه المشاريع ثم ألغيت؟! وجميع هذه المشاريع ودراسات جدواها الاقتصادية، أعطيت لمستثمرين في حمص وحلب على طبق من ذهب، ولوتحققت هذه المشاريع في شركة حمص للمصابغ، لقفزت الشركة بشكل نوعي، وكانت تحولت إلى شركة رابحة بالتأكيد. وأمام ذلك، لا بد من التساؤل: هل تمت محاسبة المدراء والوزراء واللجان التي درست التطوير؟! والوقائع تؤكد عدم محاسبة أحد منهم!!

 

فساد من نوع أخر

تطورت صناعة السيراميك في سورية بثمانينيات القرن الماضي، وكان هذا التطور سريعاً على المستوى الأفقي والشاقولي، وأدى هذا التطور إلى إحداث منافسة شديدة بين شركة السيراميك العامة والشركات المنافسة الخاصة، ولكن إنتاج الشركة النمطي تراكم، ووصلت خساراتها إلى مئات الملايين. والوقائع تقول: إن أغلى مادة في التكلفة هي مادة الطلاء «الغريت»الذي يستورد بالكامل من الخارج للقطاعين العام والخاص، ولا يوجد أي معمل في الدول المجاورة يصنع هذه المادة، ومن خلال تقصي المعلومات عن حاجة سورية والدول المجاورة (لبنان، الأردن) لهذه المادة، أوضح لنا خبير سوري يعمل في الشركة ذاتها، أنه من المجدي التفكير  بإقامة مشروع لتصنيع «الغريت»لأسباب عديدة:

- لا يوجد أي معمل مشابه في سورية ،ولا في الدول المجاورة ودول الخليج.

- توفير البنية التحتية لإقامة هذا المشروع في سورية، وفي الشركة العربية لصناعة البورسلان والأدوات الصحية في حماة.

- تخفيض تكاليف إنتاج «الغريت» مقارنة بالمستورد لكون نحو 60 ــ %65 من المواد الأولية مصنع محلياً (رمل دولومايت، كربونات كالسيوم)، وهذا يساعد على تخفيض تكاليف إنتاج السيراميك، والقدرة على منافسة الأسعار الخارجية.

 

إلغاء مشاريع لمصلحة دول الجوار

تم اقتراح إقامة المعمل بطريقة الشراكة حسب توجيهات الجهات الوصائية، وهذا يساهم في إنجاح المعمل، وتخفيض راس المال المحلي اللازم، بالإضافة إلى سهولة التسويق، أو وقف حق معرفة مقدم من شريك مشهور بصناعة «الغريت»، وتم اقتراح واعتماد طاقة المشروع على أن تكون 50 طناً كمرحلة أولى قابلة للتوسع، على أن يتم التصدير للقطاع الخاصوللدول المجاورة.

تم تقديم الدراسة إلى الجهات الوصائية في سورية، ولكنها رفضت، وعلمنا فيما بعد أن المشروع أعطي للقطاع الخاص، والغريب في الأمر، هو أن المعمل أقيم في تركيا، ويورد إنتاجه الآن إلى سورية، وهكذا تنامت ثروات البعض، ولكن على حساب من؟ بالتأكيد جرى ذلك على حساب الوطن والتنمية معاً!!