ألمانيا بين الصعود الروسي والتخريب الأمريكي

ألمانيا بين الصعود الروسي والتخريب الأمريكي

صدر خلال الأسبوع الماضي تصريحان لافتان من مستشارين سابقين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا خلال يومين متتالين، يندد بها كل منهما بسلوك الدولة الأخرى، ويعبران حقيقةً عن الموقف والرؤية السياسية لكل من دولتيهما.

التصريح الأول، صدر عن روبرت أوبراين، مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للأمن القومي، خلال اجتماع فيديو لمجلس حلف الشمال الأطلسي «الناتو» يقول فيه، بأن ألمانيا هي الشريك الأوروبي الذي كانت العلاقات معه هي الأصعب والأكثر تعقيداً بالنسبة لواشنطن، متابعاً: إن «لديهم علاقات أقوى مع الصين وروسيا مما نوده» ليشير لاحقاً إلى أن «مصالح ألمانيا أحيانا تختلف كثيراً عن مصالح الولايات المتحدة... وهي إحدى الصعوبات التي سيتعين على جيك ساليفان (المستشار الجديد للأمن القومي) والرئيس بايدن التعامل معها».

أما التصريح الثاني، فقد صدر عن غيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق في مقابلة مع صحيفة «Rheinische Post» منتقداً بها سلوك الولايات المتحدة إزاء ألمانيا وتدخلها في بناء خط غاز «السيل الشمالي 2» مع روسيا، بوصفها منافسة غير عادلة، وقال «إلى أين سنصل، إذا بدأت السياسة الأمريكية، تحدد كيف يجب علينا تطبيق سياسة الطاقة؟ لا يجوز أن تحدد الولايات المتحدة لنا أي غاز يجب أن نستخدم» معتبراً أن الغاز الأمريكي باهظ الثمن وأقل جودة من نظيره الروسي، وليس صديقاً للبيئة، وأوضح أن «الهجمات على روسيا لا تتوافق مع آراء الأغلبية في ألمانيا» داعياً الغرب بأن يرى في روسيا «الشريك الهام في الاقتصاد والسياسة، وليس الخصم اللدود».

انقسام داخل ألمانيا؟

إنّ هذين التصريحين يعبران بشكل مكثف وبمعنى إستراتيجي عن مواقف كل من الولايات المتحدة وألمانيا سواء فيما يخص علاقتهما ببعضهما البعض، أو مع الشرق من روسيا والصين، فالولايات المتحدة لم تترك فرصةً إلّا وضغطت خلالها نحو منع تنفيذ «السيل الشمالي 2» إلا أنها لم تنجح أبعد من إعاقته وتباطؤ إتمامه جزئياً، ويعزى هذا الأمر بشكل أساس إلى الموقف والسلوك الألماني الرافض لهذا الطرح والتدخل نفسه، وصولاً إلى ذروة الأمر خلال السنة الماضية، حيث زُجّ بألمانيا في صراع سياسي مباشر مع روسيا حول القضية المزعومة بتسميم المعارض الروسي الكسي نافالني واستقباله لديها، بمحاولة أمريكية لضرب العلاقات الألمانية- الروسية واستثماره بتعطيل «السيل الشمالي 2» الذي يشكل أحد أساساتها.

لكن ما بات ملفتاً للنظر بشكل واضح، هي المؤشرات المتزايدة بوجود انقسام داخل الدولة الألمانية لم تتبين ملامحه وتفصيلاته بعد، لكن يمكن لأي متتبع أن يدرك الخطوط العامة والعريضة به التي تتمثل بالموقف من روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتمكن الأخيرة عبر داعميها الموجودين في ألمانيا على توريطها مرةً تلو أخرى بصراعٍ ما مع روسيا، بينما يحاول الطرف الآخر تأريضه، فتصريحات شرودر هنا مثالاً تعبر عن ذاك الطرف الرافض للهيمنة الأمريكية، بينما نجد على المقلب الآخر وزير الخارجية الألماني الحالي هايكو ماس لا يوفر فرصةً بإطلاق تصريحات استفزازية بوجه موسكو، ومنها الأخيرة بتدخله في مجريات الأحداث داخل روسيا من تظاهرات داعمة لنافالني بعد عودته.

وبطبيعة الحال، فإن ألمانيا ليست استثناءً عن باقي دول العالم التي تمر بحالات مشابهة من انقسامات وصراعات داخلية تعبّر بجوهرها عن عملية انتقال سياسي بين نموذجين دوليين نحو التكيّف مع الجديد منها، بعد تراجع وموت الشرطي الأمريكي وبروز النموذج الشرقي الصيني- الروسي بعلاقات وسياسات التعددية والتكافؤ.

خسارة الولايات المتحدة

أما الجانب الأمريكي، فإن ما يهم من تصريحه السابق تحديداً هو إشارة أوبراين للمستشار الجديد ساليفان ورئيسه بايدن الذي يشير بالدفع نحو تصعيد وضغطٍ أعلى على ألمانيا، فهي تشكل عملياً الوزن الاقتصادي الأكبر أوروبياً بما يعنيه من وزن سياسي أيضاً. فاستمرار التباعد بين ألمانيا والولايات المتحدة يعني عملياً ابتعاد الأخيرة عن مجمل أوروبا، والصراع حول «السيل الشمالي 2» إلى جانب كونه مسألة تجارية وربحية هامة بالنسبة لواشنطن، إلا أنه يعني بحال بدء العمل به تراجع للنفوذ والوزن السياسي الأمريكي في مجمل أوروبا على حساب نقيضه الروسي، وهو ما يمثل ضربةً كبرى لأمريكا.

يمكن القول، بأن العلاقات الألمانية- الأمريكية ستزداد سوءاً وتعقيداً خلال المراحل القادمة بمقابل تقدّم في الألمانية- الروسية منها، لكن ما يمثل تحدياً حقيقاً، وتهديداً على برلين أيضاً، هو مدى قدرتها على حل التناقضات الداخلية المتمثلة بالانقسام وتأريضها وتأريض التحريض الأمريكي لها، للحيلولة دون الوصول إلى توترات سياسية عميقة محلياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2021 08:15