الإنفلونزا الإسبانية – كورونا المستجد - وأمريكا
يزن بوظو يزن بوظو

الإنفلونزا الإسبانية – كورونا المستجد - وأمريكا

يبدو الواقع الصحي في الولايات المتحدة الأمريكية مشابهاً لما كان عليه الحال من 100 عام، فيجري حديثٌ في الصحافة اليوم للتذكير كيف كافحت الولايات المتحدة وباء الإنفلونزا الإسبانية، وتُظهر هذه المقاربة تشابهاً كبيراً بين الحدثين وعلى الرغم من المدة الطويلة التي تفصل بينهما.

100 عام لم تُغيّر الكثير

كتب جوشوا زايتز مقالاً في مجلة السياسي «Politico» بعنوان: «أكاذيب كثيرة، وعلاجات مزيفة، وأَسِرّة غير كافية: ماذا بإمكان كارثة الإنفلونزا الإسبانية أن تعلمنا عن فيروس كورونا». ويجري خلالها ذكر أحداث تطور الوباء الفيروسي منذ نشأته إلى ذروته، بالتوازي مع التجاوب الحكومي الأمريكي له، منتقلاً بعد ذلك إلى مقاربة تلك الأحداث مع مجريات اليوم وكيفية تعامل الإدارة الأمريكية مع «كوفيد-19».
من الملفت بالأمر، أنّ الكاتب بدأ بالإشارة إلى أنّ الانطلاقة الأولى لفيروس الإنفلونزا الاسبانية قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء تعبئتها للحرب العالمية الأولى، وتحديداً في أحد معسكرات مقاطعة كانساس، حيث بدأت تظهر على الجنود أعراض المرض من سُعال وحُمّى وقشعريرة وغيره. ويشير إلى أنّ «الإنفلونزا الإسبانية -سيئة السمعة- هي تسمية خاطئة للبلاء، الذي بدأ على الأرجح في الولايات المتحدة، ولكن ومع انتشار القوات عبر أوروبا، حصد الفيروس حياة 21 مليون شخص على مستوى العالم، بما في ذلك أكثر من 600 ألف أمريكي».
في الحقيقة تسمية «الإنفلونزا الاسبانية» بهذا الاسم لم تكن أبداً أشارة إلى مصدره، بل بسبب تفشي الفيروس بشكل كبير في اسبانيا، وهذا يختلف كلياً عن ما يجري اليوم، ففي حالة «الإنفلونزا الاسبانية» كان يعتبر نوعاً من التعاطف مع الظروف القاسية التي شهدتها إسبانيا بسبب الفيروس، بينما تجري اليوم محاولة إلصاق اسم الصين بكوفيد-19 في محاولة لتحميلها مسؤولية لا انتشاره فحسب بل ظهوره أيضاً.
ثم ينطلق الكاتب إلى ذكر عدد من الأحداث والمقاربات، سنذكر واحدة منها لتوضيح وجهة نظره:
جرت الكثير من الأخطاء في 1918، بدءاً- على سبيل المثال- من فيلادلفيا، حيث أن الحكومة المحلية فشلت تماماً في الاستجابة لمتطلبات الأزمة الصحية العامة، فمدير الصحة العامة والجمعيات الخيرية، الدكتور ويلمر كروسن، كان مخلصاً للإدارة السياسية في المدينة، فمنذ البداية قام بالاستخفاف بخطورة الوباء، مطمئناً الناس بأنّ مكتبه «قام بحصر المرض في حدوده، وبهذا نحن متأكدون من نجاحنا. لم يتم تسجيل أية حالة وفاة، لذا ومهما كان شعوركم، لا تقلقوا». وحينما بدأت الوفيات بالتصاعد، أصرّ كروسن على أنه لا داعٍ للقلق، فهو ليس «الإنفلونزا الإسبانية» بل «بضعة حالات من الإنفلونزا التقليدية المعروفة أو الكريب... بدءاً من الآن سيبدأ المرض بالانحسار».
بعد ذلك، في 18 أيلول، نظمت المدينة عرضاً كبيراً لدعم «حملة قرض الحرية الرابع». كانت هذه الأيام تشهد ارتفاعاً كبيراً بتورط أمريكا في الحرب العالمية الأولى. فتجبر الحكومة الفيدرالية المواطنين وتخجلهم على الامتثال: من قانون الفتنة الذي منع التدخل في شؤون بيع سندات الحرب، وصولاً إلى مطالبة الروح العامة بأن يستمر العرض، ليصطف عشرات الآلاف في فيلادلفيا بالشوارع للتعبير عن فرحتهم بالموكب، مما وفر للمرض فرصة مأساوية للانتشار... فبعد عشرة أيام فقط، توفي أكثر من 1000 شخص من سكان فيلدلفيا، وأصيب 200 ألف آخرين بالمرض.
ويذكر الكاتب أحداث أخرى شبيهة جرت في بيتسبرغ ونيويورك.
يذكرنا هذا الأمر بسلوك الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه وباء فيروس كورونا المستجد مؤخراً قُبيل وفي بداية انتشاره داخل البلاد، فرغم المدة الزمنية التي كانت أكثر من كافية للتحضير والتجهيز لمواجهة الوباء، قامت الإدارة الأمريكية بالاستخفاف به والتغاضي عنه، وكما جرى منذ مئة عام في العرض الجماهيري في فيلادلفيا، عمدت الإدارة الأمريكية هذه المرة إلى استمرار الحملات الانتخابات والتصويت، لتصبح الولايات المتحدة المركز الأول للوباء على مستوى العالم بتعداد مصابين نحو 750 ألفاً، والوفيات التي تقارب 40 ألفاً.
فرغم تجربة الولايات المتحدة السابقة، إلا أنها لا تزال تعمل بنفس العقلية، عبر وضع المصالح السياسية والاقتصادية لفئة ضيقة فوق مصلحة شعبها وصحته.

استهداف الصين ثابتٌ أيضاً

الواقع الصحي المتردي في الولايات المتحدة ليس الثابت الوحيد، بل استهداف الصين بات أيضاً بنداً ثابتاً في سياسة الولايات المتحدة التي توجه سياسة الغرب عموماً، فالتحريض الواضح للرأي العام ضد الصين ليس جديداً، ففي مقالٍ لـ دان فيرجانو نُشر بمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» عام 2014 بعنوان «يقول مؤرخون بأن إنفلونزا 1918 التي قتلت 50 مليوناً نشأت في الصين»، يسعى الكاتب بكل جهده إلى محاولة إلصاق الفيروس القديم بالصين، وذلك رغم كل الادلة التي تشير بغير هذا الأمر، مستنداً إلى «قصة» تاريخية لا تمت الى البحث العلمي بصلة، بل وأكثر من ذلك، حينما اضطر إلى التطرق للجانب العلمي في مقاله – للسخرية - لم يتمكن إلاّ من الإشارة بأن الدليل الوحيد المسجّل للوباء إلى الآن يشير بأن انطلاقته كانت من الولايات المتحدة الأمريكية.
الحقيقة أن الغرب لا يسعى للبحث العلمي عن مصدر الفيروس ومن الملام في انتشاره على مستوى العالم، بل يحاول استثمار الكارثة لأغراض سياسية، فالولايات المتحدة التي تتهم روسيا والصين باستثمار المساعدات الإنسانية الضرورية لأغراض سياسية، تستثمر هي الأخرى الحدث لأغراضها السياسية، ولكن ليس عبر مدّ يد العون وتقديم المساعدات والخبرات الطبية، بل عبر نشر الأكاذيب واستثمار أرواح الأبرياء وتعريض الملايين للخطر بسبب إجراءاتها المتخلفة، فتقييم تعامل دول العالم مع هذا الوباء أمرٌ ضروري على ألاّ ينحصر في التجربة الصينية، بل يجب تقييم الجميع وذلك لمصلحة الجميع.
فمقال السيد فيرجانو المنشور قبل ظهور فيروس كورونا بعدة سنوات كان يستهدف الصين وهو جزءٌ من حملة كبرى تدار من الولايات المتحدة، وكغيرها من حملات التضليل فهي تحتاج لأية قضية مهما كانت صغيرة ليجري تضخيمها واستثمارها، ولوضع المزيد من العقبات أمام الصين وغيرها من القوى الصاعدة، المشكلة اليوم أن الأرض تهتز تحت الجميع والهجوم الذي يجري ضد الصين لن يكون كافياً لرأب الصدوع في الغرب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
962
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:52