بريطانيا وأزمة الطرق المغلقة

بريطانيا وأزمة الطرق المغلقة

لا يمكننا القول بأن مشكلة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بدأت مع الاستفتاء الشعبي في حزيران 2016 والذي صوتت فيه الأغلبية لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد، بل الأصح القول إن هذه المشكلة بدأت قبل معاهدة ماسترخت في شباط 1993 التي أعلنت ولادة الاتحاد الأوروبي أصلاً.

تشكل «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» والتي أسستها ألمانيا في العام 1951 حجر الأساس في الاتحاد الأوروبي، والتي ضمت في تلك الفترة الدول الست الأساسية في أوروبا الغربية «ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورغ»، ليتحول هذا الاتحاد في 1957 إلى «المؤسسة الاقتصادية الأوروبية». ورفض انضمام بريطانيا لهذا الاتحاد بضغط فرنسي مرتين على التوالي في 1963 و1967. إلى أن جرى ضم مجموعة دول جديدة في 1973 شملت بريطانيا، والتي كانت بعض القوى داخلها تعارض هذا التوجه، ولكن لم تكن أوزان قوى كهذه تسمح بإعاقة الخطوات الأوروبية والبريطانية.

من «كاميرون» إلى «ماي»

كان ديفيد كاميرون، والذي شغل منصب رئيس الوزراء في بريطانيا من 2010 وحتى عام 2016، وعد في إطار حملته الانتخابية في 2013 بأن يُجري استفتاء شعبياً يُحدد على أساسه مستقبل بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من عدمه، ونظراً لأن كاميرون كان من الداعمين لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي حاول التأثير على الشارع، والتأكيد على أن مصلحة بريطانيا تكمن في بقائها ضمن الاتحاد، إلا أن الخريطة السياسية في بريطانيا تبدلت وقادت قوى جديدة على رأسها UKIP «حزب الاستقلال اليميني المتطرف البريطاني المؤسس في 1993»، وأطرافاً داخل حزب المحافظين الذي ينتمي له كاميرون حملة مضادة له، بالإضافة إلى عوامل تأثير دولية عديدة تركت بصمة كبيرة على الرأي العام البريطاني، وكانت نتائج الاستفتاء الذي أجراه كاميرون في 23 حزيران 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي «51,89% لصالح الخروج مقابل 48,11% لصالح البقاء». هذا ما دفع كاميرون إلى تقديم استقالته وقال في خطابه الذي أعلن فيه هذه الاستقالة إنه «لا يرى في نفسه القبطان الذي سيقود البلاد إلى وجهتها اللاحقة... ويجب على القيادة الجديدة القيام بالإجراءات القانونية للخروج من الاتحاد الأوروبي». وهكذا انتقلت تيريزا ماي من وزارة الداخلية إلى رئاسة الوزراء بعد منافسة شرسة مع أعضاء آخرين داخل حزب المحافظين.

الخيارات المطروحة على الطاولة

قبل الخوض في تفاصيل المفاوضات التي جرت ولاتزال جارية إلى الآن، يجب الإشارة إلى الاحتمالات المطروحة، والتي يمكن وضعها تحت ثلاثة عناوين رئيسة
الخروج بدون اتفاق: في حال لم تتوصل بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق، وهذا يعني الخروج الفوري بدون فترة انتقالية، ويعني صدمة بالمعنى السياسي والاقتصادي لكلا الطرفين، فربيطانيا لن تقوم بتسديد التزاماتها المالية اتجاه الاتحاد والاتحاد سيقوم بتضيق الخناق عليها بالمقابل، ويقوم بسحب استثمارته، وستكون لذلك آثار كبرى على الاقتصاد البريطاني الذي يعتمد على علاقات التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، وهذا سيضر الكثير من القطاعات، مثل القطاع الصحي الذي سيعاني نقصاً سريعاً في الكوادر والمستلزمات الطبية والأدوية، والصعوبات التي ستقع على عاتق الحكومة لتأمين رواتب المتقاعدين وغيرها من المشاكل التي لا مجال للخوض فيها ضمن هذه المادة.
الخروج القاسي: ويقضي بالاتفاق مع الاتحاد على استقلالية كاملة لبريطانيا في تحديد شركائها التجاريين وتغيير كل اتفاقيات الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، التي ستشكل نوعاً من أنواع الحماية للمنتجات المحلية البريطانية، ولكنها ستقابل بمعاملة بالمثل من قبل الاتحاد الأوروبي، هذا بالإضافة إلى مشكلة طريقة تنقل المواطنين ومصير المقيمين في غير بلدانهم (البريطانيين المقيمين في الاتحاد الأوروبي والعكس). يُعد هذا الطرح نموذجياً بالنسبة لأغلب المحافظين الذين يرون فيه الضمانة لتحقيق الأهداف من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الخروج اللّين: وهو فعلياً محاولة لإجاد صيغة أكثر انفتاحاً على الاتحاد الأوربي وتعني عكس الإجراءات التي يمكن أن تنتج عن الخروج القاسي السابق ذكره، وهذا يعني بالنسبة للكثيرين عدم إجراء تغيير جدي.
لذلك كانت تيريزا ماي تحاول الوصول إلى توافق بين «القاسي» غير الملائم بالنسبة للاتحاد الأوروبي و«اللّين» الذي لن يُغيّر الكثير بالوضع الاقتصادي البريطاني، ولكن المشكلة أن الأوزان التي تدعم أحد هذه الطروحات تكاد تكون مساوية لما يقبلها من أوزان مما يعني المراوحة في المكان.

القبطان الجديد والأشرعة الممزقة

كانت إستراتيجة ماي في البداية تقضي بأن تجري سلسلة من الاتفاقات التي تضمن خروجاً سهلاً لبلادها من الاتحاد، وهذا المحاولات صدمت بالجدار الألماني الذي يعتبر أن خروج بريطانيا من الاتحاد يجب بالحد الأدنى أن يكون درساً قاسياً ليس لبريطانيا وحدها، بل لدول الاتحاد الأخرى التي باتت اليوم تبدي تململاً منه وترتفع العديد من الأصوات داخل بلدان الاتحاد الأوروبي تنادي بالخروج منه. لذلك كان أمام ماي طريق شاق وحيد، وهو المضي ضمن بروتوكول الاتحاد الأوروبي والذي يضمن حق الدول المنضوية ضمنه الخروج الطوعي من هذا الاتحاد على أن تجري هذه العملية بموجب «المادة 50 في معاهدة لشبونة» التي تنص في جوهرها على موافقة البرلمان الأوروبي على ما يسمى «اتفاق الانسحاب» الذي يحدد كل تفاصيل الانسحاب وما يترتب عليه من التزامات، ويحدد علاقة الدولة بعد خروجها مع الاتحاد من جميع الجوانب، ويجري الوصول إلى هذا الاتفاق خلال مدة أقصاها سنتان من إعلان أية دولة من دول الاتحاد رغبتها بالانسحاب وتكون هذه المدة قابلة للتمديد ما لم تصل دول الاتحاد إلى اتفاق.
مرت مفاوضات تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي من جهة ومع البرلمان البريطاني من جهة أخرى بمحطات مفتاحية فحسب المادة 50 لدى بريطانيا والاتحاد الأوروبي عامان للوصول إلى اتفاق، بدءاً من 29 آذار 2017 وصولاً إلى 29 آذار 2019. وبدأت المفاوضات بين الطرفين رسمياً في 26 حزيران 2017 لكن الاتحاد الأوروبي رفض الخطة التي قدمتها ماي في 20 أيلول 2018، لتجري عليها تعديلات لصالح كفة الاتحاد الأوروبي الذي وافق على نص الاتفاق المقدم من ماي، والذي يقع في 585 صفحة، لكن الصفعة هذه المرة كانت من البرلمان البريطاني الذي أصبح الآن يملك صلاحيات واسعة تخوله قبول أو رفض الاتفاق الذي تقدمه الحكومة، وقام برفض خطة، الحكومة في كانون الثاني 2019، ورفض البرلمان الأوروبي تعديل الخطة واستمر الوضع على حاله فالبرلمان رفض خطة ماي 3 مرات على التوالي وأقرّ قانوناً يمنع خروج بريطانيا بدون اتفاق، وألمانيا في الجهة المقابلة تتمسك بشروط صعبة فبات الطريق مغلقاً في كل الاتجاهات وهذا ما دفع ماي لإعلان استقالتها في 24 أيار، وعبّرت في تصريحات لها عن أسفها لعدم قدرتها على إنجاز الاتفاق، وقالت: «أصبح من الواضح لي الآن أن مصلحة البلاد تقتضي وجود رئيس وزراء جديد ليقود هذه الجهود»

جونسون والقفز فوق التوازنات

خَلَفَ بوريس جونسون تيرزا ماي وورث المشكلات نفسها، وظن جونسن أن الحل يكون بتعليقه لأعمال البرلمان الذي اعتبره معيقاً لخروج بريطانيا، وهذا ما اعتبرته المحكمة البريطانيا العليا مخالفاً للقانون ولم تنجه مساعيه إلى الآن، وفي الجانب الآخر يحظى جونسون بصلابة شديدة من قبل الاتحاد الأوربي الذي يصرّ على بقاء جوهر الاتفاق نفسه. لذلك تزداد ضبابية الصورة بدل أن تتضح، فالوضع حالياً يمكن تلخيصه على الشكل التالي: إما أن تقرر بريطانيا إجراء استفتاء آخر على أمل أن تقلب النتيجة، وهذا ما تعارضه الكثير من القوى السياسية والقوى في الشارع البريطاني، والخيار الثاني أن يرضخ الاتحاد الأوروبي وهذا ما يعني أن يفتح على نفسه أبواب جهنم التي بات من الصعب إغلاقها لوقتٍ أطول، وإما أن يوافق البرلمان البريطاني على خروج لا يلبي الهدف الأساس منه.
الاتحاد الأوروبي الذي وكما ذكرنا سابقاً نشأ من مبادرة ألمانية لإنشاء «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» بات عبارة عن ماكينة لسحب ثروات الاتحاد الأوروبي، والعديد من الدول الأخرى لصالح الاحتكارات الأكبر في عملية من التمركز المتزايد للثروة، وهذا يعني أن دول الاتحاد الأوروبي اليوم تدفع فاتورة كبيرة بمقابل مردود متناقص «دفعت بريطانيا حسب بعض التقديرات 13 مليار جنيه إسترليني، صرف منهم الاتحاد الأوروبي عليها 4 مليارت فقط، هذا يعني أن بريطانيا دفعت 9 مليارات جنيه بدون مقابل ملموس»، وإذا ما انطلقنا من هذه الفكرة فسوف نصل إلى النتيجة أن توجه الدول للخروج من الاتحاد الأوروبي هو توجه موضوعي لن يتوقف، وهذا يعني تغييراً حتمياً للخارطة السياسية في أوروبا، وفي الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة الاستفادة من هذا الميل الموجود عن طريق دفع الأوروبين إلى قفز من سفينة غارقة إلى سفينة أخرى تغرق، أي ببساطة بدل دفع الإتاوات لبروكسل، يتم دفعها لوشنطن، هذا بالشك سيناريو جيد بالنسبة للولايات المتحدة، ولكنه كابوس بالنسبة للأوروبيين، الذي بات موقفهم يتضح أكثر، فهم اليوم أكثر اقتناعاً بضرورة الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب يخفف من قسوة العصا الألمانية والحذاء الأمريكي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
934
آخر تعديل على الجمعة, 16 نيسان/أبريل 2021 16:30