«القصور الرئاسية» المصرية..الحكاية أكبر من «فضيحة»..!

«القصور الرئاسية» المصرية..الحكاية أكبر من «فضيحة»..!

نشر ممثل مصري مغمور يدعى محمد علي، كان يعمل في الوقت ذاته مقاولاً لدى الجيش المصري، مجموعة فيديوهات يتهم فيها الرئاسة المصرية والجيش بتبذير الملايين للإنفاق على قصور واستراحات رئاسية، في الوقت الذي يعاني فيه معظم المصريين من العوز. الفيديوهات المذكورة أثارت حرباً إعلامية كبيرة بين الإعلام المصري الرسمي ووسائل إعلام تابعة للمعارضة في الخارج، ترافق ذلك مع استنفار أمني وعسكري كثيف في معظم المدن المصرية، تحسباً لخروج مظاهرات معارضة للرئيس المصري. حتى الآن لم تسفر التطورات عن نتيجة نهائية، إلا أنها أعادت إلى الواجهة السجال حول تواصل تردي الحياة الاقتصادية والديمقراطية في البلاد

أثبتت الأسابيع القليلة الماضية أن مصر لا تزال أمام مفترق طرق، وأن التوازنات التي نشأت بين المجتمع والدولة والحركة السياسية، على ضعف هذه الأخيرة، منذ حراك يناير 2011 لم تختتم عهدها بعد؛ طالما أن البلاد لم تشهد حلولاً جذرية على المستوى الاقتصادي- الاجتماعي والوطني والديمقراطي.

الحراك لم يحقق أهدافه

منذ يناير 2011 وحتى الآن، لم يتحقق ما يحلم به المصريون؛ فلا البلاد استطاعت التخلص من تركة «كامب ديفد» وما تلاها من تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني والتخاذل على المستوى الوطني العام. وبدلاً من تحسّن الوضع المعيشي للمواطن المصري شهد انخفاضاً إلى ما دون مستوياته في عام 2011. فيما شهدت البلاد تراجعاً على مستوى الحريات السياسية، سواء في حقبة «الإخوان المسلمين»، التي افتتحت عقدها باللعب على الشروخ والتناقضات في المجتمع ومع الجيش، وسواء في زمن الرئيس السيسي الذي يتبنّى برنامج «أمر واقع»، قائم على مقايضة الأمن الوطني المصري مقابل الحقوق الطبقية والديمقراطية للمجتمع..

الأزمة الحالية

الأزمة الحالية بدأت مع قيام ممثل مصري مغمور، يدعى محمد علي، كان يعمل في الوقت ذاته مقاولاً مع الجيش المصري بنشر سلسة من الادعاءات بأنه أشرف على مجموعة من المشاريع كمقاول مع الجيش إرضاءً لرغبة الرئيس السيسي، لبناء قصور رئاسية وقبر لوالدة الرئيس السيسي المتوفاة، واستراحات للفريق الرئاسي وغيرها، بمبالغ كبيرة، وذلك في الوقت الذي يعاني فيه الشعب المصري العوز الشديد. وتمكّن محمد علي من استقطاب تفاعل بعض الأقنية الإعلامية المعارضة، الموالية لـ«الإخوان» بمعظمها، وبالأخص عقب تلقيه ردوداً قاسية على نطاق واسع من وسائل الإعلام المصري الرسمية ومن الرئيس السيسي ذاته لنفي مزاعمه، ليقوم محمد علي بدعوة الجماهير المصرية إثر ذلك للتظاهر لإسقاط الرئيس في إيام الجمعة، وليدعم دعوته الإعلام المعارض..

جدل.. وانتقادات

المعركة الإعلامية المذكورة بين محمد علي وإعلام المعارضة من جهة، ووسائل الإعلام والرئيس من جهة أخرى، أثارت جدلاً واسعاً بين المصريين؛ بالرغم من أن وجود الفساد الكبير في الدولة المصرية هو أمرٌ معروف لدى العامّة والخاصّة في مصر، إلا أن ظهوره للعلن من ناحية أحد الأطراف المتورطة، المقاول محمد علي، واتصال الأمر مباشرة بالرئيس السيسي فتح مجال النقاش واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام..
تركّزت الانتقادات الجماهيرية حول الخطاب الرئاسي منذ عدة سنوات في مصر: فالسيسي صاحب الظهور الإعلامي الغزير، في مناسبات مستحدثة بنحو خاص لتلميع صورة الرئاسة المصرية كمؤتمرات الشباب والإبداع وغيرها، ما انفكّ يدعو فقراء مصر إما للصبر ريثما «تنهض البلاد» أو إطلاق مبادرة «صبّح على مصر بجنيه»، فيما لم يتطرق قولا أو فعلا إلى مصير ثروات الأغنياء، أو لمسألة محاسبة الناهبين. كذلك بات الظهور الإعلامي المتكرر للرئيس استفزازياً من حيث الشكل والمضمون لكونه يكرر الرسالة ذاتها دائماً: تحميل مسؤوليات الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة لصغار الموظفين أو للمواطن المصري «البسيط»، في الوقت الذي يَمنّ رأس هرم السلطة الأعلى على المجتمع بتوفيره الأمن والأمان وإنقاذه من براثن الفتنة الإخوانية. وفي المقابل ينحو الخطاب الرئاسي منحىً تبريرياً في تفسيره للتخاذل الرسمي المصري تجاه «إسرائيل» إضافة إلى التنازلات المتسلسلة لحلفائه الإقليميين كالسعودية وبعض دول الخليج والتي أثمرت في محطة بارزة عن تنازل مصر عن جزيرتي «تيران وصنافير» للسعودية مقابل مساعدات مادية..

محاولات استثمار

بالعودة إلى تطورات الأسابيع الفائتة، اشتغلت القوى المعارضة للسيسي كحركة «الإخوان المسلمين» على استثمار حالة الاستياء التي خلفتها «فضائح» محمد علي، من خلال محاولة إحياء شكل الاحتجاجات التقليدي، مظاهرات يوم الجمعة، مع مساندة مكثّفة من وسائل الإعلام للدول الحليفة، القطرية بنحو خاص، وتم التركيز على يوم الجمعة الفائت، 27 سبتمبر، لكونه يوم عودة الرئيس من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. وشهدت أهم مدن البلاد انتشاراً أمنياً وعسكرياً كثيفاً بالتوازي مع خروج مسيرات مؤيدة للرئيس، وبحسب المصادر الحكومية المصرية فقد جرى «توقيف أقل من 1000 مواطن مصري» بتهمة محاولة التظاهر في مناطق متفرقة من البلاد. وتوازياً، زعمت وسائل إعلام مقربة من النظام ضلوع «أجانب» في المظاهرات المذكورة..

ارتباك رسمي

لم ينته المشهد بعد مع سيطرة السلطة على الوضع منذ يوم الجمعة الفائت، يؤكد هذا الأمر مشهد استقبال الرئيس المصري قادماً من نيويورك الذي شهد ترتيباً خاصاً حمل العديد من الرسائل، فقد كان في استقباله الشخصيات السياسية والعسكرية الكبرى في البلاد، إضافة إلى مجموعة من المواطنين المنتقين بعناية ليمثلوا «الأطياف» المكونة للشعب المصري، كرجال دين وإعلاميين وشباب وغيرهم، وأعلن السيسي أمامهم أن «وعي المصريين» سيحبط محاولات «تزييف الواقع»، داعياً إلى «عدم القلق» إزاء ما يجري.. وجاء ذلك مترافقاً مع استمرار الاستنفار الإعلامي والأمني والعسكري بأقصى المستويات لإحباط تحركات جماهيرية محتملة. كذلك تتواتر الأنباء عن استمرار اعتقال مجموعة من الناشطين في العمل السياسي ووضع آخرين تحت المراقبة الأمنية المباشرة، من بينهم المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي.
حتى الآن يمكن القول إن السجال المحتدم في مصر لا يزال بمعظمه في حيّز الحرب الإعلامية. إذ لم تشهد مصر بعد ظهوراً جماهيرياً كثيفاً ضد الرئيس السيسي، وفي الوقت ذاته لا يمكن التعامل بجدّية مع «المسيرات المؤيدة» بوصفها تعبيراً عن التأييد بمعناه العميق طالما أنها تجري برفقة انتشار عسكري وأمني كثيف. والحال أن طرفي الحرب الإعلامية، سواء المعارض ممثلاً بالأقنية «الإخوانية» المختلفة عبر وسائل الإعلام القطرية والتركية، أو الموالية ممثلة بالإعلام الرسمي المصري، لا يزالان يصبان جلّ تركيزهما على احتمالية التلاعب بعواطف الجماهير، بهدف استدراجها إلى الشارع إما معارضةً أو موالاةً ضمن الصيغة الكلاسيكية ذاتها في الحراكين السابقين، 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، في أيام الجمعة وضمن ضخ إعلامي كثيف باتجاه واحد.

أزمة مشتركة

إلّا أن ما جرى من تطورات يشير إلى أزمة مشتركة يعيشها طرفا الحرب الإعلامية المذكورة؛ ففي حين أن قيام المدعو محمد علي، وهو غير معروف بأي نشاط سياسي أو جماهيري سابق، بإطلاق «فضائح» أقام الدنيا ولم يقعدها واستنفر طاقات السلطة المصرية لمواجهة احتمالية التمرد على الحكم، فإن الطرف المقابل في المعارضة المرابطة مع دول إقليمية أخرى فشل أيضاً في استثمار الاستياء الجماهيري، وقوبل بلا مبالاة الناس لدعواته ضمن الأطر والتوقيتات التي حددها.
يمكن للمتتبع للشأن المصري، منذ عام مجيئ السيسي إلى الرئاسة عام 2013 عموماً، وخلال الأسابيع الماضية خصوصاً، أن يلاحظ أن الجماهير المصرية باتت أقل حساسية تجاه محاولات استدراجها إلى الشارع بشكل مفاجئ، وتحت تأثير الصدمة الإعلامية، لجعلها جسراً لعبور زمرة فاسدة جديدة إلى السلطة، وفي الوقت نفسه يمكن الاستدلال على عدم رضى الجماهير عن برنامج الأمر الواقع للنظام المصري من خلال سلوك السلطات المرتبك والمتخبط تجاه الاحتمالات المقبلة..

معلومات إضافية

العدد رقم:
933
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيلول/سبتمبر 2019 15:05