خطاب ترامب أمام الكونغرس: أساطير وإنكارٌ للوقائع

خطاب ترامب أمام الكونغرس: أساطير وإنكارٌ للوقائع

«أمريكا تحقق الفوز كل يوم»، «حالة اتحادنا قوية»، «معجزة اقتصادية تتحقق في الولايات المتحدة»...هذه ليست نكّتة! بل مقتطفات من أكاذيب ترامب أمام الكونغرس في خطاب «حالة الاتحاد» السنوي الذي يُلقيه رئيس الولايات المتحدة أمام مجلسي النواب والشيوخ.

يكاد المرء يشعر بالشفقة على الشعب الأمريكي، وعلى كل القوى والبنى السياسية الحليفة والتابعة كذلك، ممن تنطلي عليهم ادعاءات الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالتفوق والقوة. إذ امتلأ خطاب ترامب هذا العام بالأوهام، في محاولةٍ لإنكار التراجع، والترويج لإنجازاته قُبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة العام المقبل.
أمريكا مُنقذ العالم، وأجندتها هي أجندة الشعب!
الكذبة الأولى التي افتتح بها الرئيس الأمريكي خطابه هي القول بأن: «الأجندة التي سأقدمها هذا المساء هي ليست أجندة جمهورية أو أجندة ديمقراطية، بل إنها أجندة الشعب الأمريكي». ليجعل بذلك من الشعب الأمريكي بأكمله متواطئاً في الحملة ضد فنزويلا لتغيير رئيسها المنتخب شرعياً، وفي التدخل العسكري في سورية وفي العراق، في العقوبات الاقتصادية المطبقة على دول عدة متسببة بمعاناة ملايين الناس، وغيرها من السياسات الأمريكية العدوانية اتجاه الشعوب الأخرى.
إلّا أن الرئيس الأمريكي وإمعاناً في تشويه الحقائق، ركزّ في خطابه على استحضار نماذج من «بطولات» الأمريكيين حول العالم. ذكر ترامب: «في 6 حزيران عام 1944، قفز 15 ألف شاب أمريكي من السماء، واقتحم 60 ألفاً آخرون من البحر لإنقاذ حضارتنا من الطغيان»، مصوراً بلاده على أنها منقذة العالم من شر الفاشية، دون ذكر للدور السوفييتي الأساسي الذي لعبته في هذه العملية.
لا يوجد في العالم من يستطيع أن يتنافس مع أمريكا؟!
باسم الشعب أيضاً ولمصلحته، برر ترامب السياسات الاقتصادية الأمريكية، من تخفيض للضرائب على الشركات، وتعديل اتفاقية «نافتا»، والحرب التجارية مع الصين. مشيداً بإنجازاته الخارقة التي تحققت خلال فترة توليه الرئاسة: «ازدهار اقتصادي غير مسبوق»، «الشركات تعود بشكل كبير بسبب تخفيض الضرائب»... وغيرها من الادعاءات التي كان أكثرها سخريةً ما قاله ترامب حرفياً: « في القرن العشرين، أنقذت أمريكا الحرية، وحولت العلم، وأعادت تعريف الطبقة الوسطى، وعندما تصل إليها، لا يوجد شيء في أي مكان في العالم يمكنه التنافس مع أمريكا».
إلّا أنه بالعودة قليلاً إلى الإحصائيات والأرقام التي تنشرها تحليلات وتقارير دولية بما فيها أمريكية سنجد التالي:
- وفقاً لما نشرته مجلة «فوربس» الأمريكية عام 2017، يُقدّر عدد السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة بحوالي 15% من السكان، أي: أكثر من 45 مليون شخص، وهو أعلى معدل منذ الستينيات.
- حسب بيانات «المكتب الوطني للعلوم الأمريكي» و«البنك الدولي»: ضاعفت الصين ناتجها الإجمالي خلال عشر سنوات من 2007 إلى 2017 بزيادة 117%، بينما زاد الناتج الإجمالي الأمريكي خلال الفترة ذاتها بنسبة 1,5% فقط. كما أصبحت الصين المصدّر العالمي الأول، والولايات المتحدة الثاني. وتفوقت الصين في مجال الصناعات، لتساهم بنسبة 20% من ناتج الصناعات العالمي، بينما تساهم الولايات المتحدة بنسبة 14% منه فقط.
وحول «عودة الشركات بقوة» فإنه من الجدير التذكير بخطة «جنرال موتورز»، عملاق صناعة السيارات الأمريكي، التي طرحتها مؤخراً، والمتضمنة وقف الإنتاج في 5 منشآت في أمريكا الشمالية، وخفض عدد الموظفين، وتقليل الأجور بنسبة 15%.
وبينما أنكر ترامب وجود منافسين للولايات المتحدة، اعترف ضمنياً، وبالتناقض مع نفسه، بالصين كمنافس، لكنه اتهمها «بسرقة الوظائف الأمريكية، وملكيتها الفكرية، واستهداف صناعاتها»، وأن هذه «التجاوزات» قد وصلت إلى نهايتها نتيجة للإجراءات التجارية التي طبقها ترامب ضد الصين حسب ادعائه.
المهاجرون غير الشرعيين أساس المشاكل!
أمّا معظم المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة من انتشار للجريمة، والبطالة وانخفاض الأجور... فقد حمل ترامب مسؤوليتها للمهاجرين غير الشرعيين! معيداً التأكيد على عزمه بناء الجدار مع المكسيك، الذي من شأنه، ووفقاً لما تضمنه جوهر حديث ترامب، أن يضع حداً لتدفق «مروعي الشعب الأمريكي» و«مسببي مشاكله الاقتصادية والاجتماعية».
وبينما كان ترامب يخطب بالكونغرس ذكر: «بينما نحن نتحدث، هنالك قوافل منظمة كبيرة من المهاجرين في طريقها إلى الولايات المتحدة...لقد أمرت 3750 جندياً إضافياً بالتوجه إلى حدودنا الجنوبية للاستعداد لهذا الهجوم الهائل». ناسياً أو متناسياً أن تدفق هؤلاء من الجنوب ليس طمعاً بحرية أمريكا وازدهارها، بل هو محصلة لسطو واشنطن على بلدانهم، وتدخلها في دول أمريكا اللاتينية والوسطى، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على مر العقود، متسببة بارتفاع معدلات الفقر والبطالة والفساد. وما الحملة الأمريكية الجارية حالياً في فنزويلا إلّا جزءٌ من هذا السلوك الأمريكي التاريخي. غير أن ترامب وبينما كان يحمّل المهاجرين القادمين من دول أمريكا اللاتينية وزر البطالة وانخفاض الأجور والجريمة في بلاده، تحدث عن أنَّ إدارته « تقف مع الشعب الفنزويلي لنيل حريته، بينما تقف ضد عدوانية مادورو التي حولت فنزويلا الغنية بالموارد إلى حالة من الفقر»، في حالة متقدمة من إنكار الحقائق والاستخفاف بالعقول.
كان حديث ترامب مليئاً بالأكاذيب، وبالثناء على كل شيء أمريكي، إلّا أنه وكما أن الشمس لا تغطَّى بغربال، فإن حقيقة التراجع والانقسام والأمريكي، لا يمكن إنكارها، ومؤشراتها عديدة وملموسة، اقتصادية وسياسية. ترتفع اليوم على مستوى العالم مؤشرات التحرر من الهيمنة الأمريكية، كما تزداد في الداخل الأمريكي الأصوات المطالبة بالتغيير، وبين الداخل والخارج، لن تستطيع الإدارة الأمريكية وادعاءاتها، أن تغير من الواقع ومآلاته الموضوعية.