«نافتا» المعدّلة: التجارة الحرة لا تُنصف العمال

«نافتا» المعدّلة: التجارة الحرة لا تُنصف العمال

خلال حملته الانتخابية، هدد ترامب بخروج الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ««NAFTA ما لم تحصل على اتفاق «عادل»، ليعود ويصفها بأنها أسوأ اتفاقية تجارية أُبرمت في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها كارثة على الاقتصاد الأمريكي... حتى تم الإعلان في 30 تشرين الثاني 2018، عن تعديل الاتفاقية، لتصبح باسم «الاتفاقية الأميركية المكسيكية الكندية USMCA».

رغم احتفاء البيت الأبيض بإيفاء الرئيس بوعده، وتصريح ترامب ذاته متفائلاً بأن أمريكا تمكنت أخيراً من «طي صفحة عقود من الصفقات التجارية غير العادلة التي ضحت بازدهارنا، وتسببت بخروج شركاتنا ووظائفنا وثرواتنا»، إلّا أن الاتفاقية المعدّلة التي ركزت بمعظمها على قطاع السيارات، لم تثنِ «جنرال موتورز» من طرح خطة جديدة تتضمن وقف الإنتاج في 5 منشآت في أمريكا الشمالية، وخفض عدد موظفيها، وتقليل الأجور بنسبة 15%.
وفقاً للإدارة الأمريكية، إن الاتفاقية الجديدة تصب في مصلحة الطبقة العاملة أولاً، وأن الاتفاقية القديمة أدت إلى خسارة الولايات المتحدة للكثير من الوظائف وفرص العمل. فهل تكمن المشكلة حقاً في «نافتا»؟ وهل تم تعديل الاتفاقية لمصلحة العمال فعلاً؟
نافتا والأثر الاقليمي
«نافتا» هي اتفاقية ثلاثية، تم التفاوض عليها من قبل حكومات كندا والمكسيك والولايات المتحدة، ودخلت حيّز التنفيذ في عام 1994. أزالت هذه الاتفاقية معظم التعريفات الجمركية على المنتجات المتداولة بين الدول الثلاث، وكان تحرير التجارة في الزراعة والمنسوجات وصناعة السيارات محط تركيز كبير، كما سعت الاتفاقية إلى حماية الملكية الفكرية وإنشاء آليات لتسوية المنازعات.
أعادت «نافتا» تشكيل العلاقات الاقتصادية لأمريكا الشمالية، وأدت إلى إندماج غير مسبوق بين الاقتصادات المتقدمة لكندا والولايات المتحدة مع الاقتصاد النامي في المكسيك، وبناءً عليه ازدادت التجارة الإقليمية بشكل كبير من حوالي 290 مليار دولار في عام 1993 إلى أكثر من 1,1 تريليون دولار في عام 2016. كما ارتفعت الاستثمارات عبر الحدود، مع زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي في المكسيك، من 15 مليار دولار إلى أكثر من 100 مليار دولار، خلال الفترة ذاتها.
حظيت الاتفاقية في حينه بدعم «الجمهوريين» و«الديمقراطيين»، وانتقد معارضوها تحرير التجارة مع المكسيك، باعتبار أن اختلاف الأجور سيؤدي إلى فقدان العديد من فرص العمل في السوق الأمريكية. أما البعض يرى أنه منذ بدء المفاوضات على «نافتا» كانت العين على المكسيك واقتصادها النامي، باعتباره سوقاً واعدةً للتصدير والعمالة الرخيصة والاستثمار غير المكلف، بحيث تتنافس عليه الشركات الأمريكية والكندية.
الأثر على الاقتصاد الأمريكي
في السنوات التي تلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا» تضاعفت التجارة الأمريكية مع جيرانها في أمريكا الشمالية لأكثر من ثلاثة أضعاف، لتصبح كندا والمكسيك أكبر وجهتين لصادرات الولايات المتحدة، حيث تمثلان أكثر من ثلث إجمالي الصادرات، وحسب التقديرات فإن نحو أربعة عشر مليون وظيفة تعتمد على التجارة مع كندا والمكسيك، مقابل تقديرات أخرى تشير إلى أنه على مدى عقدين من الزمن فقدت الولايات المتحدة حوالي 600 ألف وظيفة فقط.
يعتبر منتقدو نافتا أن سبب فقدان الوظائف وركود الأجور في الولايات المتحدة، سببه انتقال الشركات إلى المكسيك لتخفيض التكاليف، وتزايد العجز التجاري. إذ تأرجح الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والمكسيك من فائض أمريكي قدره 1,7 مليار دولار في عام 1993 إلى عجز قدره 71 مليار دولار بحلول عام 2017، وهو ثاني أكبر عجز تجاري أمريكي مع دولة أخرى بعد الصين، ومعظمه في قطاع السيارات.
من ناحية أخرى، فَقَدَ قطاع صناعة السيارات الأمريكي حوالي 350 ألف وظيفة منذ عام 1994، بينما ارتفعت العمالة في قطاع السيارات المكسيكي من 120 ألف إلى 550 ألف عامل.
يحاول البعض إلقاء اللوم بانخفاض وظائف التصنيع الأمريكية على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بينما يؤكد العديد من الاقتصاديين أنّ الأمر مرتبط بصعود دول أخرى منافسة، وتحديداً الصين، وهو مرتبط بالعمق، بطبيعة النظام الاقتصادي القائم، الذي عزز التفاوت في الأجور، وبطبيعة رأس المال العابر للحدود، الذي يسعى بشكل أساسي إلى تعظيم الربح وتخفيض التكاليف. وأن الوضع بالنسبة للولايات المتحدة بدون نافتا لكان أسوأ، إذ أن المكسيك قريبة جداً والاتفاقية ولدت نوعاً من الروابط أتاحت للولايات المتحدة الاستفادة منها.
«نافتا» المعدّلة
كان تدفق منتجات السيارات أمراً مركزياً في إعادة التفاوض بشأن اتفاقية «نافتا»، وأدت الاتفاقية الجديدة «USMCA» إلى التغييرات التالية في تجارة قطاع السيارات:
- أصبح من الضروري أن يكون 75% من مكونات السيارة مصنوعاً في إحدى الدول الثلاث لإعفائها من الرسوم الجمركية، فيما تبلغ هذه النسبة حالياً 62,5%. ورغم أن هذا الإجراء قد يزيد من التصنيع في أمريكا الشمالية، إلّا أنه لا يزيد بالضرورة من فرص العمل في الولايات المتحدة، مع عدم وجود ما يلزم ذلك، إذ قد يكون المحتوى الإضافي في المكسيك أو كندا.
- تقضي الاتفاقية بضرورة أن يُنفذ ما لا يقل عن 30% من حجم الأعمال، على أيدي عمال لا تقل أجورهم عن 16 دولاراً في الساعة، بينما تعتبر أجور غالبية العمال المكسيكيين، أدنى من ذلك في الوقت الحالي. إلّا أن هذا الإجراء لا يضمن أيضاً فرص عمل أكبر وأجور أعلى في الداخل الأمريكي، فحسب التقديرات حوالي 40% من محتوى المركبات التي تشحنها المكسيك إلى السوق الأمريكية يتم الحصول عليها من الولايات المتحدة وكندا، وبالتالي تُدفع بالفعل الأجور فوق هذا المعدل.
تضمنت الاتفاقية المعدّلة بنوداً أخرى، من بينها تقديم كندا تنازلات لواشنطن، حيث أتاحت لمنتجي الألبان الأمريكيين مجالاً أكبر في سوقها، بالإضافة إلى تسهيلات لشركات صناعة الأدوية الأمريكية في السوق الكندية لفترة 10 سنوات. ورغم هذه التنازلات فإن الاتفاقية الجديدة تبدو مريحة لكندا وحتى المكسيك، من الخيارات الأخرى الأكثر تطرفاً لترامب مثل الانسحاب من الاتفاقية- رغم أن الاتفاقية لا تزال تحتاج إلى التصديق عليها في الدول الثلاث، ومن غير الواضح ضمان الحصول على موافقة الكونغرس الأمريكي بعد- وقد عبر رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو عن موقفه بالقول «كان علينا تقديم تنازلات... لكنه يوم جيد»، أما ترامب فوصف الاتفاق الجديد بأنه «تحول تاريخي».. «يفتح أسواقاً لمزارعينا ومصنعينا».
لكن ماذا عن العمال في المكسيك وكندا وحتى الولايات المتحدة؟ تدّعي الإدارة الأمريكية أن الاتفاقية الجديدة تصب في مصلحتهم، لكن المعطيات تقول أنه كما لم تستطع «نافتا» حل مشكلة تفاوت الأجور والبطالة، كذلك لن تستطيعَ الاتفاقية الجديدة فعله، إذ لن ينصف الطبقة العاملة في أمريكا الشمالية، كما في كل العالم، سوى تنظيم نفسها، والنضال ضد وعود تحرير التجارة الواهية، والسعي وراء التغيير الجذري.