الخطة الأمريكية في العراق: تمويه الاحتلال وتشويه المقاومة

بعد سلسلة من الإخفاقات تتلخص بنجاح المقاومة العراقية الشعبية والمسلحة في تحطيم الحلم الأمريكي بإنجاز غزو «تحريري» سهل يليه احتلال مستقر، رابح جداً من جهة، ومرتاح ومريح أمام العالم ولمتابعي نشرات الأخبار المسائية في التلفزة الأمريكية، اضطر مخططو «الكعكة النفطية والستراتيجية العراقية» في واشنطن أخيراً للنزول من سماء هذه الأوهام، لكنهم بدل اتخاذ القرار الحكيم بالإنسحاب المبكر من الأرض التي تلفظهم يومياً بالتوابيت، أخذوا مجدداً بقراءة تجارب «الإستعمار التقليدي»:

التجربة البريطانية السابقة في العراق نفسه بعد ثورة العشرين

استقدام فيصل الأول، بعد عزله عن «عرش» سورية، ومعه عدد من قيادات وكوادر الثورة العربية ممن سبق وتعاملوا مع الإنكليز إبّان الحرب العالمية الأولى، وتكليفهم بإنشاء دولة «مستقلة» شكلاً، لها جيش وحكومة لكنها تعمل بإشراف المخابرات البريطانية.

التجربة الفرنسية بعد الثورة السورية الكبرى

تنصيب الشيخ تاج، رجل الدين البارز ورجل الإعمار أيضاً، رئيساً، ومعه في المناصب الحكومية بعض رجال الثقافة والساسة المحسوبين على «الوطنيين»، ووضع دستور جميل لكن مادته الأخيرة 116 تُخضع تطبيق كل ما سبقها لموافقة فرنسا.

التجربة «الإسرائيلية» بعد الإنتفاضة الفلسطينية الأولى

استقدام الميالين للمساومة من قادة الثورة الفلسطينية السابقة من تونس، بعد اغتيال أو إضعاف وتهميش غير الميالين، لإقامة حكم ذاتي له «رئيس» و«مجلس تشريعي» تنبثق عنه «حكومة»، وإنشاء الكثير من الأجهزة المولجة بضبط "الأمن" ولكن ليس من أجل الإستقلال الفلسطيني - كما زُعم- بل من أجل توسيع الإستيطان الصهيوني في جو ملائم، كما حصلت فعلاً تجارب متنوعة لتمويه واقع الإحتلال بتنصيب حكومات «وطنية» «شرعية» «منتخبة» إلى آخر ما هنالك من حيل مسرحية مخصصة لإبراز الدمية وإخفاء اليد التي تحركها.

ومع أن داء الغباء الاستعماري استعصى على الحكماء وثبت أنه ما للمستعمرين منه شفاء، مع ذلك لا بأس من تذكير المصابين به ببعض التواريخ التي اختتمت بها «التجارب» آنفة الذكر وما تلاها من تنويعات عليها: 18 تموز 1958في العراق، 17 نيسان 1946 في سورية، 28 أيلول 2000 في القدس باندلاع الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى المبارك المباركة.

ونضيف على سبيل التذكير للأمريكيين منهم على وجه الخصوص، 29 نيسان 1975 يوم فرار آخر القتلة المارينز ومعهم آخر عملائهم المحليين بواسطة آخر مروحية تمكنت من الإقلاع بهم تحت وابل الرصاص من سطح سفارتهم في سايغون التي أصبح اسمها مذّاك «مدينة هوشي منه». فهل سيكون مصيرهم في بغداد مختلفاً، ولو بعد حين ؟ أم أنهم ما زالوا يقرأون في بدايات هذه التجارب ؟ منهم معهم سيصلون على أي حال إلى خواتيمها ! عدا هذا النمط المعروف للتمويه على حقيقة الإحتلال وحجبه خلف ستار، يظنون أنهم سيتمكنون من تشويه حقيقة المقاومة الوطنية، وعزلها داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، سياسياً وشعبياً، عن طريق وصمها بالإرهاب بالإستعانة بأعمال التفجير المشبوهة التي تستهدف المدنيين في الشارع أو المصلين في المساجد والكنائس، فلا تؤذي الإحتلال بل تخدم أغراضه في تمزيق وحدة العراقيين كي لا يهبوا في وجهه موحدي الصفوف.

لهذا الغرض أشاعوا وضخموا حكايات «أعوان النظام الصدامي» و«المتسللين» و«أبو مصعب الزرقاوي» !

لقد سبق لأهم منظمات المقاومة الوطنية العراقية التأكيد (بما أتيح لها من وسائط الإتصال) أنها لا تقبل في صفوفها «أعوان النظام الصدامي» السابقين، لا لشيء إلا لضعف صدقيتهم. بيد أن ضعف الصدقية هذا لا يبدو أنه يعني المحتلين وأعوانهم في «الحكومة» ذلك أنهم بدأوا منذ أشهر بتجنيد هؤلاء «الأعوان» بالآلاف، خصوصاً بعد الاستغناء عن خدمات أحمد الجلبي الذي كان يعارض ذلك.

كما أخفقت «الحكومة» العراقية الحالية مؤخراً في إثبات دور «المتسللين» في أعمال المقاومة، فمن بين أكثر من عشرة آلاف أسير في سجون الإحتلال، تبين، بأرقام «الحكومة» ذاتها، أن عدد الأسرى العرب من غير العراقيين لا يزيد عن المائة، علماً أن وجود هؤلاء على أرض العراق هو على أي حال أكثر شرعية بما لا يقاس من وجود عساكر أمريكا وبريطانيا وبولندا وغيرهم من شذاذ الآفاق والمرتزقة الذين أتوا من أربع رياح الأرض.

فهل بات «التسلل» من بلد شقيق أخطر من السطو المسلح العابر للقارات ؟.

أما «أبو مصعب الزرقاوي» الذي يقصفون الفلوجة الباسلة من حين لآخر بغية قتله كما يزعمون، فلم يثبت إلى الآن أن أحداً رآه، لا في الفلوجة ولا في غيرها، بل يؤكد بعض المطلعين على الخبايا أن الإرهابي الأردني الذي حمل هذا الإسم كان قد قتل في أفغانستان قبل الغزو الأمريكي للعراق، فهل يصعب عليهم - لو صح ذلك- إخفاء جثته ومن ثم إحياؤه شبحاً أو فزاعة في العراق ؟.

فمن الذي يقوم إذاً بأعمال القتل العشوائي والإرهاب في العراق ؟ هذا سؤآل مفتوح على إجابات شتى في مقدمتها الأجهزة السرية للإحتلال والعملاء بالتعاون مع أجهزة العدو الصهيوني ذات الخبرة الطويلة في هذا النمط من خلال الحرب اللبنانية.

أما الإجابة الرائجة (أو المروجة) القائلة أنها «القاعدة» فهي أحد الاحتمالات الواردة لكن دون أن نكون قد ابتعدنا كثيراً عن نفس الدائرة، إلا إذا أخذنا الهوزعة الأمريكية حول «الحرب ضد الإرهاب» على محمل الجد. قد تكشف الأيام عن حقيقة الإرهاب ما قد يذهل الأجيال، ولحينها من المهم جداً أن نتذكر دوماً أن أصل كلمة «القاعدة» هو قاعدة الحشد والتدريب والإمداد الضخمة التي أقامتها المخابرات الأمريكية في مدينة بيشاور الباكستانية المجاورة لحدود أفغانستان لإعداد المتأسلمين الكذبة من أجل محاربة النظام التقدمي الذي قام هناك في أواخر سبعينات القرن الفارط، واستنزاف الإتحاد السوفييتي من خلاله، وكان التمويل السخي لهذه «القاعدة» يأتي من الأنظمة الرجعية العربية، أما التدريب العسكري المتقدم فكان إسهاماً مشتركاً من فريقي معاهدة "معسكر داوود" المشؤومة للتعبير عن انضواء النظام الساداتي التام تحت الراية الأمريكو-صهيونية. إننا ندرك ولا شك صعوبة الظروف المحيطة بعمل المقاومة السرية الباسلة في العراق الشقيق والمخاطر المحيقة بالمقاومين الأبطال مما يعيق عملهم السياسي والإعلامي، خاصة بغياب القاعدة الآمنة اللازمة لذلك والتي توفرت لغيرهم في الثورات المعروفة (فيتنام - الجزائر إلخ)، لكننا نثق أن هذه المقاومة التي تمكنت ميدانياً من قلب المعادلات خلال عام واحد فقط، لقادرة أيضاً على إجتراح الوسائل الكفيلة بفقء الفقاقيع الإعلامية المزيفة وإفشال محاولات طمس المقاومة الحقيقية والحط من سمعتها، وأنها ستتمكن من التعريف بنفسها بصورة أفضل، إلى العراقيين والعرب والعالم، بخطاب سياسي كفاحي وطني تحرري جبهوي عريض.

هنا نناشد الإعلام الوطني العربي والتحرري العالمي حيثما وجد مساندة المقاومة في هذه المهمة الكبرى، فالمعركة الإعلامية جزء هام من المعركة السياسية المتممة للكفاح المسلح، وسنبقى في «قاسيون» منبراً للحقيقة في هذا الشأن إلى أن يشرق فجر الحرية والاستقلال التام الناجز على العراق الشقيق.

 

■ بشير يوسف

معلومات إضافية

العدد رقم:
227
آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2016 14:31