جيـمس ج. بـريتـن جيـمس ج. بـريتـن

تمديد حصانة العم سام في كولومبيا

من السهل متابعة الحركات ذات الطابع الاشتراكي، وآثار سياساتها الإصلاحية التقدمية في بلدان أمريكا اللاتينية المعاصرة. ففي حين تواصل فنزويلا تجربة رئاسة هوغو شافيز والتغيير المعتمِد مبادئ الثورة البوليفارية؛ تشهد بوليفيا تعزيز مشروع التأميم الذي تقوم به حركة إيفو موراليس الاشتراكية؛ أما الرئيس رفائيل كوريا فقد حظي بتأييد واسع لإصرار إدارته على رفض تدخلات الولايات المتحدة في المنطقة، وترجمته عملياً بإيقاف النشاطات الأمريكية في ميناء ومطار «مانتا». وإلى جانب هذه الحكومات المنتخبة، على العكس من كل التقارير الإعلامية الحكومية، رسّخت الحرب الأهلية المستمرة في كولومبيا وجودَ جيش القوات المسلحة الثورية للشعب الكولومبي (فارك) كقوة مناوئة لهيمنة المصالح السياسية- الاقتصادية الأمريكية الكولومبية. ليصبح بالتالي أحد أهم جيوش حرب المغاوير وأنجحها، وأهم قوة عسكرية- سياسية مناهضة للإمبريالية.

ترجمة: موفق اسماعيل

وتبعاً لتبنيه النظرية الماركسية، حاربته الحكومات المتعاقبة في كولومبيا (والولايات المتحدة) بغية إجهاض مسيرة نضاله من أجل التحرر، وخوفاً من فقدان النخب لسيطرتها الطبقية على كولومبيا. الأمر الذي سيعني، في حال حدوثه، زعزعة مصالحها الداخلية والخارجية في منطقةٍ تواصل خروجها عن فلك النظام السياسي- الاقتصادي التابع للولايات المتحدة. ورغم أن عام 2008 شهد تراجعاً تكتيكياً للمقاومة الكولومبية، ما يزال «الجيش الثوري» أكبر حركات المقاومة، وأطولها عمراً في تاريخ أمريكا اللاتينية المعاصر.

الحصن الأخير

تذرعت الإدارات الأمريكية، من نيكسون إلى أوباما، بالحرب على المخدرات، ثم بالحرب على الإرهاب لاحقاً، لإدامة سيطرتها على كولومبيا، ونشر قواتها العسكرية، وشن الحملات ضد القطاعات الواسعة المناهضة لها. وبإبرام الاتفاق الأخير بين بوغوتا وواشنطن الذي يسمح للولايات المتحدة بإعادة استخدام سبع قواعد عسكرية على الأراضي الكولومبية، تتضح أكثر فأكثر معالم التحالف الاستراتيجي القائم بين حكومتي البلدين لعسكرة أمريكا اللاتينية بأكملها، لا كولومبيا وحدها.
يعتقد جيرمان روداس شافيز أن هذه الاتفاقيات تسعى لتمكين الولايات المتحدة من السيطرة على جزء من أمريكا اللاتينية، كحد أدنى. ومساعدتها على شن «عمليات عسكرية إقليمية» في كولومبيا ومحيطها الجغرافي. لذا ترى واشنطن أن للعلاقة مع كولومبيا بُعداً استراتيجياً بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، لثلاثة أسباب رئيسية:
موقع كولومبيا الهام اقتصادياً وجيوسياسياً كمدخل لأمريكا الجنوبية: فهي تنفتح على المحيطين الأطلسي والهادئ، لمحاذاتها حوض بنما وبحر الكاريبي، وتشترك بالحدود مع خمس دول (بنما، فنزويلا، الإكوادور، البيرو، البرازيل).
لكونها أحد أهم مزودي الولايات المتحدة بالطاقة بين دول أمريكا اللاتينية وبحر الكاريبي، حاضراً ومستقبلاً، نظراً لضخامة احتياطيها غير المستخرج من النفط والفحم، وبالكاد جهزت مؤخراً خط أنابيب وباشرت بحفر الآبار.
اشتراكهما، كولومبيا والولايات المتحدة، بتحقيق هدف واحد: التخلص من خطر قيام البديل الإيديولوجي-السياسي-العسكري، ونسف أية إمكانية لنجاح «الجيش الثوري» بالقيام بثورة «من تحت».
وانطلاقاً من هذه الأسباب، يصف جون بيركنز كولومبيا بأنها آخر قلاع الامبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية. وطالما بقيت الحكومة الكولومبية محتفظة بالسلطة، يظل لدى واشنطن أمل باستعادة سيطرتها الاقتصادية السياسية على المنطقة برمتها.
 
وحدة المصالح الطبقية

أصبحت كولومبيا حالياً حجر أساس استعادة الولايات المتحدة لهيمنتها على المنطقة، والاستثناء الفاضح الشذوذ عن حركات مناهضة هيمنة الشركات الكبرى في أمريكا اللاتينية، بمحافظتها على وضعها كدولة وكيلة لواشنطن. وتلقت حكومتها بالمقابل مبالغ هائلة على شكل مساعدات عسكرية رسمية، وشبه عسكرية (ميليشيات المرتزقة التي تمولها الشركات الخاصة).
عموماً، لا يخرج ما تشهده كولومبيا عما يذكره ماركس (وأنغلز) بصدد ممارسات السلطة في ظل سيادة العلاقات الرأسمالية. حيث تصطف دورياً نخب عدة بلدان بغية إزاحة كل ما يعيق انتشار الرأسمالية وتوسعها. و«في الممارسة السياسية، لا تتورع عن اللجوء إلى أقصى درجات العنف والإكراه ضد الطبقة العاملة». وفي عام 1847، أشار ماركس أمام حشد من عمال لندن إلى تكاتف الرأسماليين، تلقائياً، مع بعضهم بعضاً كنتيجة طبيعية لوحدة مصالحهم الطبقية، العابرة للحدود. إنه تضامن القاهرين ضد المقهورين، وتضامن المستغِلين ضد المستغَلين. فمثلما يتحد بورجوازيو بلد معين ضد طبقتها العاملة، رغم المنافسة والتناقضات الموجودة بينهم، كذلك يتحد بورجوازيو بلدان العالم المختلفة ضد الطبقة العاملة في جميع أرجاء العالم، مهما بلغ بهم الصراع والتنافس على أسواق العالم.
على أية حال، الحصانة التي تتمتع بها القوات الأمريكية في كولومبيا ليست ظاهرة عرضية أو طارئة، وإنما هي مجرد تنفيذ للاتفاقيات المبرمة بين بوغوتا وواشنطن. في الفترة بين عامي 2002-2003، تخلت الحكومة الكولومبية عن كل قوانين معاقبة الأمريكيين على الجرائم التي يرتكبونها في كولومبيا، التزاماً بقانون الولايات المتحدة «حماية أفراد الخدمة الأمريكيين». ولفترة تزيد عن عقد كامل، حرص مسؤولو البلدين على ضمان عدم تدخل أو إعاقة المؤسسات الكولومبية للعمليات الأمريكية (أثناء وبعد القيام بها). باختصار، من خلال اتفاقية منح الحصانة تفلت القوات الأمريكية من المحاسبة على كل ما ترتكبه عمداً من أذى وضرر. وكم جريمة مرت بلا عقاب خلال العقد الأخير!!

بلا فضائح

كل التصريحات التي سمعناها عن الحصانة التامة المستقبلية لقوات الولايات المتحدة في القواعد السبع، وحتى اتفاقية الحصانة ذاتها، هدفها تجنيب المسؤولين الأمريكيين حتى مجرد إيراد أسمائهم في فضائح تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. كما حدث في عام 1986، حين وبخت محكمة العدل الدولية الولايات المتحدة بعد أن توصلت إلى تورط الأخيرة في أعمال إرهابية، بتعاونها مع شبكات مسلحة شبه عسكرية لزعزعة «النظام السانديني»، وموافقتها على تخريب المجرى المائي لماناغوا، في نيكاراغوا.
ومن اللافت أن طلب إدارة أوباما تمديد حصانة القوات الأمريكية قوبل بترحيب حكومة ألفارو يوريبي، كونها بحاجة لتعزيز استقرار نظامها السياسي-الاجتماعي بعد أن شهدت المنطقة تغييرات اقتصادية سياسية اجتماعية كبيرة تثير الشهية للمزيد. مانحة إياها كل الصلاحيات لتطبيق تكتيكاتها ومناهجها وحملاتها، على حساب سيادة كولومبيا، وسيادة شعبها. مما يذكرنا بما كتبه لينين بخصوص قيام التحالف بين بورجوازية الدول المستغَلة وبورجوازية الدولة المستعمِرة. حيث تندمج مصالح بورجوازية الدول المقهورة اندماجاً كلياً بمصالح بورجوازية الدولة الإمبريالية، وتتوحد قواهما ضد كل الحركات والطبقات الثورية.
إن الدافع المحفز لعقد اتفاقية الحصانة وفتح القواعد السبع هو نهضة الحركات الاشتراكية التقدمية وتعاظم دورها، داخل وخارج كولومبيا، بما يكفي لتهديد المشروع الإمبريالي الأمريكي. وإذا كان هذا يعني خسارة الولايات المتحدة مكاسبها من استثمار الثروات الطبيعية الوطنية، والعمالة الرخيصة، والميزات التجارية، فالأهم أنه يؤشر إلى قدرة الناس «من تحت» على متابعة بناء قوة جماعية موحِّدة لأمريكا اللاتينية، على الطريقة البوليفارية، يمكنها الصمود في وجه ضغوط الهيمنة المالية والعسكرية الإمبريالية.
لكنها في نهاية الأمر، بدلاً من قبول الحقوق الديموقراطية الدستورية للدول الأخرى، واحترام حق الأغلبية من شعوبها بابتكار نموذجها السياسي البديل المناسب لتمثيلها ولتنميتها على طريقتها الخاصة، تابعت الولايات المتحدة، وسوف تتابع العمل، وعياً وإدراكاً، ضد حق الشعوب بتقرير مصيرها.
بروفسور مساعد في قسم علم الاجتماع، ومنسق مركز أبحاث التنمية الدولي، في جامعة أكاديا، كندا

www.upsidedownworld.com