الانتخابات العراقية.. وخيارات الأمريكان الأخيرة..

تضيق خيارات قوات الاحتلال الأمريكية شيئاً فشيئاً في العراق، وربما أنها قد أصبحت محدودة جدا بعد الانتخابات العراقية التي جرت مؤخراً..

 فإجراء الانتخابات في وقتها مع مقاطعة جزء كبير من العراقيين لها، وفي ظل الوضع الأمني والسياسي المتأزم أفرز حتماً مولوداً سياسياً مشوهاً، في شكل قيادة عراقية ترتدي ثوب الطائفية، لا شرعية لها ولا فاعلية، ولا تحظى بأي دعم أو ثقة شعبية. فالجميع يعلم سواء في شمال العراق أو في جنوبه أو وسطه وغربه، أن كل الجدل والصراع والمناكفات التي سبقت ورافقت وتلت الانتخابات، ما هو إلا محاولات لا وطنية لتقاسم أكبر قدر من الفتات، المادي والمعنوي والسياسي، الذي تلقيه قوات الاحتلال لعملائها وعرابيها على أنه مغانم ومكاسب أولية.

ولا يغير من طبيعة الانتخابات ولا من نتائجها المشاركة الشعبية فيها، فالنسبة العظمى ممن شاركوا واقترعوا لم يقوموا بذلك إلا بدافع الخلاص بعد أن ضاقت بهم الحال من جراء تردي مختلف ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وخاصة بعد التكريس المتصاعد المدعوم إعلامياً ودولياً للطائفية والمذهبية والإثنية، والمحاولات غير المنقطعة لعدد كبير من الزمر السياسية المتأمركة لترسيخ الحلول التقسيمية الساعية إلى تفتيت بنية المجتمع العراقي والأرض العراقية.

وتسعى الولايات المتحدة من خلال هذه الانتخابات بمقدماتها ونتائجها إلى عزل العراقيين الرافضين لوجودها في وطنهم، وإلى خلق شرخ بين أبناء الوطن الواحد، وتسريع عملية شرعنة الوجود الأمريكي الغاصب والقسري في بلاد الرافدين بالاعتماد على قوى وشخصيات ليس لها أي رصيد وطني.

ورغم هذا كله، وكلما مر المزيد من الوقت، تجد قوات الاحتلال الأمريكية وقيادتها في واشنطن نفسها تتخبط أكثر فأكثر، دون أن تجد الحلول التي من شأنها رفع الضغط الهائل الواقع عليها نتيجة التصاعد الذي لم يتوقف أبداً لعمليات المقاومة العراقية.

إن أسوأ ما تعانيه القيادة الأمريكية استراتيجيا هو أنها تكاد تكون استنزفت كل خياراتها، فالأمريكيون بذلوا كل طاقتهم خلال سنوات الاحتلال الماضية، ولم يعد لديهم الكثير مما يمكن أن يقدموه عسكريا أو سياسيا لترسيخ مشروعهم الإجرامي في العراق.

فزيادة قوتهم البشرية هناك لن يضمن استقرار الوضع، بقدر ما يمنح المقاومة أهدافا أكثر وأقرب منالا. والغطاء الدولي للاحتلال لا يرجى له تحسن في المدى المتوسط والبعيد، في ظل زيادة قوة اليمين في الحكومة الأمريكية، وبالتالي في السياسة الأمريكية بعد نجاح بوش في الظفر بفترة رئاسية ثانية. فهذا اليمين لا يمكن له أن يكسب أصدقاء دوليين، حتى وإن بدا الآن أن ثمة تقارب أوربي _ أمريكي، وخاصة في وجهات نظر كل منهما في ما يتعلق بالشرق الأوسط، فالعالم ليس أوربا فقط! ولت يكون كذلك أبداً.

إن بناء سلطة شرعية في العراق تتمتع بالحد الأدنى من المصداقية لدى شعبها غير وارد في ظل مقاطعة أعداد لا يستهان بها من العراقيين.

إن ثمن الحرب الباهظ في الدماء والأموال والعتاد، والإنفاق المبالغ فيه من الميزانية والذي سوف يؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى مفاقمة مشكلة المديونية الأميركية المتعاظمة للدول الأجنبية، وتبرم الشعب الأمريكي من كثرة الرياء الذي رافق الحرب، وعدم اقتناع غالبيته بشرعيتها أو بجدواها العسكرية و«الديمقراطية» والسياسية، قد أوصل البيت الأبيض الأمريكي إلى حافة الإفلاس السياسي والمالي، وحاله الآن سواء في العراق أو الولايات المتحدة أو في العالم بأسره في غاية الصعوبة والمأزقية. إن المجتمع الأمريكي أصبح شعباً منغمساً بالاستهلاك وهو بحاجة إلى كل شيء الآن. وفي الماضي كان الأميركيون في المجمل يدخرون حوالي 10 في المائة من دخلهم. والآن أصبحت هذه النسبة أقل من 1 في المائة. ولا عجب أنهم يضطرون إلى رهن أصولهم المالية للأجانب وتمويل استثماراتهم من مدخرات الشعوب الأفقر في آسيا وأوروبا.

ولولا أن الأمريكيين يدركون عواقب فشلهم في العراق، وما سيؤدي إليه من انحسار نفوذهم في المنطقة بأسرها، وضعف حضورهم على المسرح العالمي، لكانوا اعترفوا بفشلهم، وانسحبوا من العراق. لكن العراق غنيمة كبرى ورهان خطر في الوقت ذاته، وهو ما يجعل الانسحاب منه أمراًعسيرا للغاية، وربما أشد عسرا من الإقدام على غزوه.

ولعل الاحتلال الأمريكي ما يزال يحاول أن يحقق نجاحاً واحداً على الأقل، وهو اختراق البنية الطائفية في العراق، وإقناع معظم قادة الطوائف والإثنيات من العراقيين بأن أهدافه تتقاطع مع مطامحهم في حكم طوائفهم وأثنياتهم بعيداً عن وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبالتالي الوصول بهم جميعاً ودون استثناء إلى الاقتتال.

وربما أن ارتفاع معدلات البطالة إلى 50 في المائة في بغداد و75 في المائة في الأرياف، ساعد الأمريكيين على توسيع عمليات التجنيد، لتشكيل جيش يلعب دور المتراس الذي يقيهم من نيران المقاومين، لكن هذا الأمر آخذ بالتراجع.

ومع ضيق الأفق الأمريكي وندرة خياراته، نجد أن المقاومين العراقيين يمتلكون في أيديهم العديد من الخيارات، وتبدو فرصهم في إبقاء جذوة المقاومة متقدة، أحسن من فرص أي حركة مقاومة في التاريخ الحديث.

ومن أبرز مظاهر ذلك كما أكد أحد الباحثين:

أولا: وفرة السلاح وعدم الحاجة إلى تجشم مصاعب الحصول عليه من الخارج، على نحو ما وقع لأغلب ثورات التحرير في العالم من قبل. فحالة الحرب الفعلية أو الكامنة التي عاشها العراق خلال العقدين الأخيرين خلفت ملايين قطع السلاح في أيدي الشعب، وهو ما جعلها متاحة للمقاومة العراقية مجانا أو بأثمان رمزية. ولا تحتاج المقاومة العراقية إلى دفع ثمن ذلك السلاح مخاطرة أمنية، أو تنازلا سياسيا لقوى خارجية، كما حدث لأكثر حركات التحرير السالفة.

ثانيا: وجود مئات الآلاف من العسكريين السابقين، الذين تمرسوا على استخدام السلاح، وخاضوا حروبا طاحنة من قبل، وقد انضم العديد من هؤلاء إلى المقاومة بدوافع الغيرة والحمية الوطنية، وبالتأكيد هم ليسوا محسوبين على طائفة أو طاغية بل هم عراقيون وطنيون أولاً وأخيراً.

ويضاف إلى هؤلاء مئات الآلاف من المدنيين العراقيين الذين أدوا الخدمة العسكرية من قبل. فهؤلاء وأولئك أصبحوا مددا لا ينضب للمقاومة العراقية، في حين احتاجت جل حركات التحرير الحديثة حينا من الزمن إلى تدريب الناس على التعاطي مع السلاح.

ثالثا: توازت حركة المقاومة العراقية مع الطفرة الإعلامية التي تشهدها المنطقة، خصوصا في مجال الفضائيات والإنترنت. فهذه الميزة لم تحصل عليها حركات التحرير السابقة في العالم الثالث، ورغم أن الأمريكيين يبذلون قصارى جهدهم لتشويه صورة المقاومة، والتعمية على إنجازاتها، واحتكار الصورة والصوت والتضييق على الإعلاميين، إلا أنهم لم ولن يتمكنوا من إخفاء هزائمهم المتعاقبة والمدوية، وبات القاصي والداني يدرك حجم النكبات التي يتعرضون لها على أيدي المقاومين الصناديد.

ورغم هذه الميزات الكثيرة التي تتمتع بها المقاومة العراقية، إلا أنها تعاني إلى الآن من عدم انضوائها تحت راية واحدة، ومن عدم وجود حركة سياسية وطنية ذات رؤى فكرية واضحة تنظم عملها وتوجهه وتعيد إنتاجه بما يتناسب مع تطور الأحداث، وإن كان لا بد من حدوث ذلك في القريب العاجل، لأن هذا هو منطق التاريخ، فعملية خلق وفرز القوى الوطنية الحقيقية تنبع أولاً من الحضور القوي والفاعل ضمن العمل الثوري، وغالب الظن أن المسألة مسألة وقت ليس أكثر، وبالتالي فإن هذه القوى الوطنية الثورية المنظمة والممنهجة باتت قريبة التشكل، إن لم تكن قد تأسست فعلاً ولم تعلن عن نفسها لأسباب أمنية.

إن ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية التي يسعى الأمريكيون لتبييض صورتها وإعطائها الشرعية‘ ما هي إلا ائتلاف بين من يرضى عنهم الاحتلال، ولعل الدور الأساسي المطلوب إلى هذه الحكومة تنفيذه في هذه المرحلة، هو محاولة إقناع الشعب العراقي بمختلف أطيافه أن خروج قوات الاحتلال من العراق هو كارثة، محاولين هم ومن يدعمهم سياسياً ومادياً، إخفاء حقيقة راسخة سيدركها قريباً كل العراقيين، وهي أن جلاء هذه القوات الغازية ما هو إلا كارثة عليهم وحدهم، لأن زعاماتهم الهوائية مرتبطة بوجود الاحتلال.

■ محرر الشؤون العربية

جهاد أسعد محمد

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.