عمرو عزت عمرو عزت

مصر الجديدة.. شيء ما عفن!!

كما يليق حقا برئيس تجاوز في الحكم ربع قرن من الدوران في المكان، وممانعة التقدم إلى الأمام .. كان (سيادته) في معرض الآثار المصرية الغارقة ببرلين. بينما كانت الفوضي تجتاح وسط القاهرة صباح الخميس، والمعارك على أشدها – من طرف واحد - بين قوات أمنه وبين المتظاهرين المتضامنين مع القضاة وناديهم المنتخب، المعترضين على إحالة اثنين منهم إلى محاكمة تأديبية بتهمة إهانة القضاء، بعد إدلائهم بمعلومات تفيد حدوث تزوير وتلاعب في نتائج الانتخابات البرلمانية السابقة.

وتأكيدا لهذه اللفتة الدالة التي تليق به حقا، فإنه صرح في اليوم نفسه أنه حريص على عدم التدخل مطلقا في شؤون القضاة.

رئيس الجمهورية الذي يختار فعلياً وزير العدل والمجلس الأعلى للقضاء لا يتدخل في شئون القضاء! ... والخلاف بين نادي القضاة الذي تلتف الأغلبية العظمي من القضاة حول مجلس إدراته المنتخب بأغلبية ساحقة، وبين وزير العدل والمجلس الأعلى للقضاء المعينين من السلطة التنفيذية هو حقا خلاف لا شأن لرئيس السلطة التنفيذية به.

هكذا يحب أن يصور الرئيس الغارق المسألة متجنبا الصورة الحقيقة لها وهي أنها إحدي جوانب صحوة الفئات المصرية المطالبة بالاستقلال والحرية. وأطراف المسألة هم بوضوح: الممثلون المنتخبون للفئة الطامحة إلى التحرر والاستقلال وإقرار حكم القانون لا حكم الفرد، وعلى الجانب الآخر ممثلو السلطة التنفيذية التي تجمع السلطات بيدها وتهبها للفرد المعتلي سدتها، والذي يريد أن يبقي المجتمع المصري تحت الوصاية، وتحت تصرف المزاج الرئاسي وتقديراته لجرعات الحرية والديمقراطية المناسبين للمجتمع القاصر غير الناضج، أو تفضيله لهراوات وحواجز الأمن ومن خلفهما قانون الطوارئ: صك عبودية المجتمع وارتهانه تحت قبضة الأمن.

هذه المعركة هي صورة مكبرة لمعارك وأزمات أخرى كثيرة تدور قرب السطح، ومنها أزمة الحراسة المفروضة على نقابة المهندسين منذ أكثر من عشر سنوات، وأزمة المطالبة باستقلال الجامعات ووقف التدخل الأمني في شؤونها وغيرهما.

معركة استقلال القضاء نجحت في فرض نفسها، لأن بعض الاستقلال الذي يحظي به مجتمع القضاة – والذي ما يزال منقوصا وفق رؤية القضاة أنفسهم – قد غل يد السلطة عن قمعهم أو التلاعب بقضيتهم تحت مسميات مختلفة، وقصة الخلاف الداخلي بين القضاة، والرئيس الحريص على عدم التدخل لا تقنع إلا الحمقى في الإعلام الرسمي.

لا يمكن أيضا أن نصدق أن التراجع عن إعادة حق المواطنين في التظاهر السلمي هو محض اجتهاد من موظف كبير بدرجة بلطجي يسمي وزير الداخلية. فمثل هذه التغيرات المفاجئة لا تحدث في مصر إلا وفق مزاج السيد الرئيس. الذي كان توقفه عن قمع أنشطة الشارع السلمية بتوبيخ مباشر من الإدارة الأمريكية.

يبدو فعلا أن مزاج السيد الرئيس قد تغير .. فمعركة القضاة قد عكرته إلى أقصي حد.

فمن جانب يلوح أن السيد الرئيس لا يجد حرجا من أن يسمع المطالبات الديمقراطية في الشارع لأنها فعلا غير ذات قدرة على الحشد الجماهيري، ولكنه يشعر بالقلق من الالتفاف حول - أو عقد الأمل على - أشخاص بعينهم .. ما زال التنكيل بأيمن نور مستمرا في قضية ملفقة .. والقضاة يحالون إلى محاكم تأديبية، والتعدي عليهم لم يتوقف، من تجاوزات الشرطة ضد القضاة المراقبين للجان إلى التعدي على القاضي محمود حمزة. والعدوانية الشديدة تطال المتضامنين معهم للحيلولة دون تفاقم مظاهر الإعلاء من شان قادة حركة القضاة وإكبارهم مقابل التردي المستمر لمكانة الرئيس وهيبته بين النخبة والشارع على حد سواء.

كما أن معركة القضاة قد جمعت كل أطياف المجتمع المصري النشطة تحت راية التضامن معهم، التيارات السياسية جميعها، والحقوقيون، والنقابيون وغيرهم ومعظم رموز المجتمع المستقلين تضامنوا بشكل أو آخر، وتوافدوا لتحية القضاة والشد من أزرهم. أضف المجتمع الدولي وفي مقدمته تجمعات القضاة في العالم التي تتضامن مع حركة القضاة المصريين ومطالبهم.

الاستفزاز إذن كان شديدا، وذلك التوازي بين حركة القضاة وحركة كل أطياف الناشطين ومؤازرة المجتمع الدولي، يبدو أنه أفزع الجالس وحيدا في القصر الجمهوري، ونكأ موقفه الضعيف في مواجهة القضاة الذي يتقدمون بخطي وئيدة ولكنها ثابتة، والضعيف المتعجرف عندما تضيق من حوله الحلقات يلجأ إلى الشراسة والعدوانية المفرطة التي تصل إلى حد السفالة.

ولكن تلك العدوانية وذلك القمع لم ينجحا بعد في إيقاف حركة القضاة، بل إنه على ما يبدو يقلل أكثر فأكثر تلك المسافة التي يحافظون عليها بينهم وبين المعارضة السياسية وحركة التغيير.

فالقضاة - الذين بدؤوا يستخدمون وسائل الضغط السياسي مثل الوقفات والاعتصامات - ردوا تحية التضامن معهم بأفضل منها وأعلنوا تضامنهم مع المعتقلين منذ أول موجة اعتقالات.

جوهر الصراع يزداد وضوحا مع ازدياد قمع الدولة وصلفها في مواجهة القضاة وحركة التغيير على السواء. حركة التغيير ليست حركة سياسية متجانسة تطمح لاعتلاء الحكم، ومطالبتها بالتغيير جوهره في الحقيقة - خلف الشعارات القصوى بإسقاط النظام - إطلاق الحريات ووقف انتهاك الحقوق بما يسمح ببناء دعائم مجتمع ديمقراطي يحكمه القانون، لا الفرد ولا القوة البوليسية والعسكرية.

ومطالب القضاة ومعركتهم هي في القلب من مطالب المنادين بالتغيير في مصر.

وحركتهم هي في القلب من حركة تغيير عامة، أوسع من حركات التغيير السياسية المعروفة، التي بدأت في مصر ولا ينبغي أن تتوقف.

علينا أن نعي أن الطريق طويل ووعر نحو التغيير الشامل، ولكن ما يحدث حالياً في جانبيه هو شوط أساسي وأولي من مشوار التغيير.

فمعركة القضاة، من جانب، تمثل نموذجا للتدافع بين "الناس" والسلطة لتوسيع مساحة الحرية للناس وفاعليتهم ورؤاهم وأحلامهم، وتقليل مساحة التسلط والوصاية والاستبداد والاستغلال.

كما أن مواجهة القمع ضد حركة التغيير ومواجهة مصادرة حق التجمع والتظاهر والاعتصام السلميين، هو قضية مصير لهذه الحركة. ليس لأن التظاهر وأنشطة الشارع هي أقصي الأماني ولا هي طريق التغيير. ولكن لأن مساحة الحرية الممنوحة لأدوات النشاط السياسي في الشارع هي الوجه المقابل لمساحة الحرية الحقيقة التي يبدأ فيها النشاط السياسي الجدي، بانتظام "الناس" في تجمعات سياسية أو اجتماعية أو فئوية أو مطالبية تخوض المعركة الحقيقة من أجل الديمقراطية الجذرية التي يحدد فيها الناس - بأنفسهم ولأنفسهم - مصيرهم عبر تحديد مصالحهم ومطالبهم القريبة المحددة والنضال من أجلها.

مساحة الحرية الحقيقية هذه تحتاج لحرم من حرية التعبير والاحتجاج لحمايتها وتعزيزها خاصة إذا كانت حركة المجتمع في مهدها وتحتاج لأوسع مساحة ممكنة من الحرية لتخوض معركتها الأولى التي تناضل فيها لتخرج فيها إلى الوجود في مواجهة سعي الآثار الغارقة لإبقاء الوضع تحت السيطرة.

تحررنا الحقيقي لا ينفصل عن حريتنا في التعبير والقول وتحديدا ضد من اختاروا أن يكونوا أعداءنا ورفع أصواتنا في مواجهتهم بلا مواربة.

لا تعود حركة التاريخ إلى الوراء مادام هناك مطالبون بالتقدم إلى الأمام. ولا يطفو الغارقون مرة أخرى إلا جثثا عفنة.