الاجتياح التركي للعراق: دلالات واتجاهات

على الرغم من كل الإدعاءات الحكومية التركية بعدم وجود أية صفقة مع واشنطن بخصوص الاجتياح التركي الجديد للأراضي العراقية، إلا أنه لا يختلف اثنان على أن ذلك الاجتياح الموسع والمعزز ما كان ليحدث لولا وجود ضوء أخضر أمريكي، يسمح لواشنطن في نهاية المطاف بإعادة خلط الأوراق في المنطقة ككل، والانتقال إلى طور آخر من أزمة عراق ما تحت الاحتلال باتجاه تكريس انقسامه وتقسيمه، واتخاذ الاقتتال الداخلي فيه بعداً عرقياً وطائفياً جديداً (كردي- كردي، وكردي- شيعي- سني) مع انعكاس مفاعيل ذلك وارتداداته مرة أخرى على محيطه الإقليمي، ولاسيما في الدول الموجودة على قائمة الاستهداف الأمريكية-الإسرائيلية (سورية، إيران، ولبنان).

المبعوث التركي في بغداد يقول إن «أنقرة غير مستعجلة في إنهاء حملتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني»، ووزير الدفاع الأمريكي يكتفي بدعوة تركيا للإسراع في ذلك، في حين تجد الحكومة المركزية المعينة أمريكياً في بغداد نفسها مضطرة في محاولتها الحفاظ على ماء وجهها لدعوة تركيا «لاحترام السيادة العراقية» مستدركة في الوقت نفسه «الإعراب عن تفهمها للضرورات الأمنية التركية»، في حين لم يصدر عن النظام الرسمي العربي، الذي أدمن العجز، أي موقف تجاه هذا الانتهاك الجديد لحرمة الأراضي العراقية، بعدما سلم فيما يبدو أنها محمية أمريكية، ليبقى الشعب العراقي بكل مكوناته، بما فيها الكردية، ضحية التآمر الأمريكي وتواطؤ قياداته مرة أخرى، في وقت تمر فيه مرور الكرام عبر وكالات الأنباء أخبار سقوط ضحايا من العائلات الكردية الموجودة في شمال العراق والتي لم يكن لها لا ناقة ولا جمل سوى أنها من سكان تلك المنطقة تاريخياً ولكنها على الدوام كانت ضحية تنازع المصالح الإقليمية والدولية وتقلبات مواقف وارتباطات قيادات تنظيماتها السياسية ودخولها في الحلف الأمريكي المتلاعب بوجودها ومصيرها والمسخر له خدمة لأهدافه وليس للتطلعات القومية للأكراد. 

ومن ناحية ثانية فإن اللافت في هذه الحملة التركية منذ أيامها الأولى هو التغطية الإعلامية لجثث الجنود الأتراك العائدة إلى تركيا من ساحات الاشتباك مع مراسم عسكرية وإظهار للعائلات الثكالى بما يوحي بأن أنقرة تستعد فعلاً لحرب طويلة تستدعي تعبئة شعبية داخلية لها ويراد منها أن تكون «بالون اختبار» لإقامة قواعد عسكرية تركية في الشمال العراقي، ليس فقط من أجل ضمان غياب التهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني وإنما بهدف الإسهام في تصفية الحسابات داخل صفوف ذلك الحزب بين من ما زالوا يراهنون على  أمريكا ومن باتوا يدركون دورها المشؤوم، ولكن مع عدم اتضاح الفرز تماماً داخل صفوف القوى الكردية فإن ذلك يعني اقتتالاً داخلياً ظهرت أولى تجلياته في تباين موقف «قيادة إقليم كردستان العراق» عن موقف حكومة طالباني-المالكي، وهو تباين ينسحب أصلاً من الخلافات حول قانون النفط والغاز والصفقات مع الشركات الأجنبية بمعزل عن وزارة النفط في الحكومة المركزية، إلى الوضع في مدينتي كركوك والموصل، وصولاً للعلم العراقي.

أما على الجانب التركي فإن استمرار الاشتباكات وإسقاط المروحيات وتكبد الجيش التركي الخسائر على الرغم من استخدامه أسلحة أمريكية-إسرائيلية، وإذا ما نفذ حزب العمال تهديداته بنقل المعركة إلى داخل المدن التركية فإن ذلك سيشكل المبرر المطلوب لرجب طيب أردوغان للتنصل من تحالفاته الإقليمية وانفتاحه على دول الجوار العربي والإسلامي، وعودة العسكر (الذين لم يغيبوا عن ساحة الفعل عملياً في الساحة السياسية التركية) إلى واجهة ذلك الفعل في تركيا مع إعادة تكريس الوجه الأطلسي لتركيا المؤسسة العسكرية بتحالفاتها الأمريكية والإسرائيلية مع خلق بلبلة داخل الأوساط التركية وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الحاكم إذا لم يتخذ مواقف وطنية.

أما الولايات المتحدة فتبقى ظاهرياً حيادية وتكتفي بموقع المتفرج الذي يجني المكاسب مع إبقائها لـ140 ألف جندي في العراق نسفاً لكل مقولات الانسحاب منه، دون أن تخرج مجريات الوضع في شمال العراق عن سياق ما تشهده المنطقة من استمرار الاستعصاء في لبنان وترشح الوضع فيه للانفجار بما يحمل في طياته قانونية الدومينو التي تشمل سورية وإيران، وتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، وتصاعد التهديدات ولغة الحرب ضد سورية أي الانتقال من محاولة احتواء دمشق خارجياً وسياسياً إلى احتوائها ببعد إضافي من الملف الأمني إقليمياً مع المضي باحتوائها اقتصادياً – اجتماعياً من الداخل.

إن حل قضايا المنطقة وشعوبها وحقوق أقلياتها يبدأ من بناء الموقف الصحيح من السياسات الأمريكية ومرتكزاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، دون استمرار أية أوهام حول جدوى الاستنجاد بالأمريكي أو الاستقواء به، وإن من شان ذلك أن يسهم في إعادة الاعتبار «للشرق العظيم» والمصالح الحقيقية لشعوبه العربية والكردية والفارسية والتركية بعيداً عن الشوفينية والتعصب، وتقديم هذا المشروع الاستراتيجي بديل مقاومة موضوعية لمشروع الشرق الأوسط الأمريكي الصهيوني بتجلياته التفتيتية التدميرية.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين2/نوفمبر 2016 10:56