بول كريج روبرتس بول كريج روبرتس

القوة العظمى المفلسة - انهيار الهيمنة الأمريكية

* بول كريج روبرتس

ترجمة: د. حسني العظمة - خاص قاسيون

 يظن البعض أن السيطرة الأمريكية قدرٌ على العالم لا رادَّ له، ويصفون الآراء المغايرة بأنها دعايات شيوعية سبق أن قيل مثلها الكثير، فلطالما بشّر الشيوعيون بقرب إنهيار الولايات المتحدة والإقتصاد الأمريكي دون أن يتحقق شيء من ذلك. ولكن ما قول هذا البعض في المادة التالية الطازجة جداً جداً والتي تبشّر البشرية بإقتراب ذلك الحدث الجلل وحلول اليوم العظيم، وبقلم أحد أعمدة حكم ريغان الذي لم يُعرف عنه يوماً أية ميول شيوعية؟

• المترجم

بيّن كوريلي بارنيت في كتابه الشهير «انهيار الهيمنة البريطانية» الصادر عام 1972 أن بريطانيا العظمى لم تكن تملك عند اندلاع الحرب العالمية الثانية من الذهب والقطع الأجنبي ما يكفي لسد نفقات الحرب سوى لبضعة أشهر فقط، ومن ثم لجأ البريطانيون للأمريكان لتمويل قدرتهم على مواصلة الحرب. وقد كتب بارنيت أن هذا الاتكال على أمريكا كان بمثابة الإشارة إلى نهاية الهيمنة البريطانية.

أما حروب أمريكا في القرن الجديد على أفغانستان والعراق فكانت منذ بدايتها حروباً بالدين يمولها الأجانب (أساساً الصينيون واليابانيون) الذين يشترون سندات الخزينة التي تصدرها الحكومة الأمريكية لتمويل موازناتها المعجوزة.

تتوقع إدارة بوش عجزاً في الموازنة الاتحادية للعام الجاري نحو 410 مليار دولار أمريكي، ونظراً إلى أن معدل الادخار الحالي يعادل الصفر تقريباً فإن الولايات المتحدة باتت تعتمد على الأجانب ليس فقط لتمويل حروبها بل أيضاً لتغطية جزء من الإنفاق الحكومي الداخلي. الاقتراض من الخارج هو الآن مصدر الأموال لتسديد رواتب موظفي الحكومة الأمريكية (وربما راتب الرئيس نفسه) وتمويل نفقات مختلف الإدارات العامة. من الناحية المالية لم تعد الولايات المتحدة دولة مستقلة.

بيد أن تقدير إدارة بوش للعجز المالي بـ410 مليار دولار يستند إلى افتراض غير واقعي بأن الناتج المحلي الإجمالي سيزداد لهذا العام 2008 بنسبة 2.7 %، لكن واقع الحال يؤكد أن الإقتصاد الأمريكي قد سقط بالفعل في حالة ركود قد تكون خطيرة، ولن يكون هناك بالأحرى 2.7 % نمو، وبالتالي سيكون العجز أكبر بصورة ملموسة من 410 مليار دولار.

وعلى غرار الخلل في الموازنة الحكومية تواصل قيمة الدولار الأمريكي هبوطها مقابل العملات الأخرى، حيث لا يقع الدولار تحت ضغط عجز الموازنة فحسب بل كذلك تحت ضغط العجز الهائل في الميزان التجاري والتضخم المتوقع نتيجة الجهود التي يبذلها الاحتياطي الفدرالي لتثبيت النظام المالي شديد الاضطراب عن طريق حقنه بالسيولة النقدية بصورة مفرطة.

إن إضطراب العملة والنظام المالي والعجوزات الهائلة في الموازنة العامة والميزان التجاري أمور لا تريح بالطبع دائني الولايات المتحدة. ومع ذلك تبدو واشنطن المتغطرسة وكأنها تعتقد أنه من الممكن للولايات المتحدة أن تتكل إلى الأبد على الصينيين واليابانيين والسعوديين لتمويل حياة أمريكا بما يفوق إيراداتها. فلنتخيل الصدمة التي ستقع حين يأتي اليوم الذي لا يكتتب فيه بالكامل على سندات الخزينة الأمريكية المعروضة للبيع في المزاد.

لقد بددت الولايات المتحدة 500 مليار دولار في حرب عبثية. يمثل هذا المبلغ النفقات المباشرة فقط، ولا يتضمن لا كلفة استبدال المعدات المدمرة، ولا الأكلاف المستقبلية لرعاية قدامى المحاربين، ولا كلفة فوائد القروض التي تمول الحرب، ولا بالأحرى الفاقد في الناتج المحلي بسبب تحويل الموارد الشحيحة إلى الإنفاق الحربي. أما الكلفة الحقيقية لحرب العراق فتصل إلى 3 تريليون دولار وفق تقديرات الخبراء من خارج ماكينة التلفيق الحكومية.

لقد صرح المرشح الجمهوري للرئاسة أنه راغب بمواصلة الحرب ولو لمائة سنة. بأية موارد ستفعل هذا حين ينظر دائنو الولايات المتحدة إلى سلوكنا ويرون فيه انعداماً للمسؤولية المالية؟ يرون بلداً مخاتلاً يتصرف كما لو أن له امتيازاً على الأجانب بأن يقرضوه المال، بلد مخادع يعتقد أن الأجانب سيستمرون في مراكمة الدين إلى مالانهاية.

لقد أفلست الولايات المتحدة في حقيقة الأمر. ففي تقريره المالي إلى الكونغرس بتاريخ 17/12/2007  ذكر دافيد ووكر (المراقب العام للنفقات ورئيس مكتب التفتيش المالي في الحكومة الأمريكية) أن «الحكومة الاتحادية لا تواظب على تطبيق نظام داخلي فعال لمراقبة التغطية المالية بما في ذلك حماية الأصول، ولا تذعن للقوانين والأنظمة الرئيسة في هذا المجال». هذا يعني ببساطة أن الحكومة لم يعد بمقدورها أن تجتاز بنجاح أي تدقيق محاسبي.

والأخطر من ذلك أن التقرير المذكور أشار إلى أن الأعباء المالية المتراكمة على الحكومة الاتحادية قد وصلت في 30/9/2007 إلى مبلغ 53 تريليون دولار تقريباً. ولم تودع الحكومة جانباً أية أموال مقابل هذا العبء المرعب. ولكي يدرك القارئ حجم هذا فإن: 53 تريليون دولار تعني 53000 مليار دولار.

وقد استقال ووكر أخيراً من منصبه بعد أن يئس من الحديث إلى آذان صماء.

اعتباراً من 17 آذار 2008 بات الفرنك السويسري الواحد يعادل أكثر من دولار أمريكي، بينما كان الدولار في العام 1970 يعادل 4.2 فرنك سويسري، و360 ين ياباني، والآن أقل من 100 ين. هل يرغب أي دائن في الإبقاء على دين بعملة لها مثل هذا السجل البائس تجاه عملة بلد مكون من جزر صغيرة، هُُزم وقُصف بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية، أو تجاه بلد أوروبي قاري صغير يتمسك باستقلاله ولا ينضم إلى الاتحاد الأوروبي؟

هل من أحد يبقي ديناً له على بلد يستورد ما يفوق إنتاجه الصناعي؟ طبقاً لآخر التقارير الإحصائية الصادرة في 28 شباط 2008 كانت مستوردات الولايات المتحدة في العام 2007 تمثل 14 % من الناتج المحلي الإجمالي في حين صنّعت ما يعادل 12 % من ناتجها الإجمالي، ولايمكن لبلد يستورد ما يزيد عن إنتاجه الصناعي إغلاق العجز في ميزانه التجاري عن طريق زيادة الصادرات.

ينهار الدولار حتى تجاه اليورو الذي هو عملة دولة وهمية غير قائمة في الواقع هي الاتحاد الأوروبي. إن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها من الدول الأعضاء في هذا الاتحاد مستمرة في الوجود كأمم ذات سيادة، بل إن بريطانيا تحتفظ بعملتها الخاصة، ومع ذلك يسجل اليورو يومياً ارتفاعاً جديداً تجاه الدولار.

كتب نعوم تشومسكي مؤخراً أن أمريكا تظن أنها تمتلك العالم. هذه بالتأكيد نظرة المحافظين الجدد في إدارة بوش، لكن الحقيقة الصارخة هي أن الولايات المتحدة مدينة للعالم، وأن «القوة العظمى» الأمريكية ليس بوسعها أن تمول حتى أنشطتها الداخلية (ناهيك عن مغامراتها الحربية الخارجية) إلا بعطف أولئك الأجانب الذين يقرضونها أموالاً لا يسعها تسديدها.

لن تسدد الولايات المتحدة أبداً تلك الديون، ذلك أن الاقتصاد الأمريكي قد أصابه الخراب بسبب الاستثمار خارج الحدود والمنافسة الأجنبية واستيراد العمالة الخارجية، مع الالتزام بعقيدة التجارة الحرة التي تخدم مصالح القطط السمان من أرباب العمل وحملة الأسهم على حساب الطبقة العاملة الأمريكية. ويوالي الدولار الاخفاق في دوره كعملة إحتياطية عالمية وسينتهي قريباً إلى الهجران.

وحالما يتوقف الدولار عن لعب دور العملة الاحتياطية العالمية لن يعود بوسع الولايات المتحدة تسديد فواتيرها على طريق إقتراض المزيد من أموال الأجانب. بل إنني أتساءل أحياناً حول مدى قدرة «القوة العظمى» مستقبلاً على حشد الموارد اللازمة لتأمين عودة قواتها الموزعة على مئات القواعد العسكرية خارج حدودها، أو أن مصير تلك القوات والقواعد سيكون هو أيضاً الإهمال والهجران!

* معاون وزير المال الأمريكي في عهد رونالد ريغان

آخر تعديل على الجمعة, 26 آب/أغسطس 2016 12:31