الاقتصاد المتعولم و«تأثير الموجة»

بينما كنت أركض عبر أروقة مطار هيثرو لألحق بالطائرة التي ستقلني إلى الولايات المتحدة، وقعت عيناي على عنوان لافت في إحدى الصحف المصغرة: «انتهاء فترة عرض رهونات الـ105بالمئة». وبعد أن التقطت أنفاسي، وعقلي أيضاً، حاولت أن أفهم ما الذي كان يعنيه ذلك العنوان. ولم يكن ما اكتشفته ساراً: فقد وجدت «أن رهونات الـ105بالمئة» تعني أن المصارف الحمقاء كانت تقرض الناس الحمقى قروضاً بسعر فائدة متدنية للغاية، ولم تكتفِ تلك المصارف بإقراض زبونها كامل المبلغ الذي يحتاجه لشراء المنزل، بل كانت تقرضه أيضاً 5 بالمئة من إجمالي قيمة القرض لإجراء ما يريد من تحسين على المنزل.

المشكلة أن هذا النوع من التهور المالي، كان متفشياً في أضخم اقتصاد في العالم، وأن سياسة «احصل على قروض عقارية دون أية مسؤولية»، قد امتصت طاقة المصارف والمستثمرين في معظم الاقتصادات «المتعولمة». والغريب أن أزمة الرهون العقارية التي وقعت في الولايات المتحدة تم تمويلها بكرم من المصارف السويسرية المشهورة باتخاذها إجراءات الدقة والصرامة في معاملاتها. كذلك فقد تم تمويل تلك القروض من  «جمعيات البناء»  البريطانية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم تمويلها أيضاً بطريقة غير مباشرة (ولكن، هل بالفعل بقي في هذه الأيام شيء اسمه «طريقة غير مباشرة!؟»)، من مؤسسات الاستثمار النرويجية والصينية. والنتيجة ماثلة أمامنا: مئات الفيلات الضخمة غير مكتملة البناء المنتشرة في مختلف أرجاء ولاية أريزونا الصحراوية.
لكن المصارف والمقترضين الحمقى لم يكونوا الوحيدين الذين تعرضوا للضرر بسبب أزمة الرهن العقاري. فتداعي مؤسسات مالية موقرة، وردود الفعل الخرقاء للمشرعين (في الواقع لا يبدو أن أحداً منهم يفهم كيف تعمل الأسواق الرأسمالية الحديثة)، وما يُعرف بـ«تأثير الموجة» ينتشر الآن عبر البلدان كافة. وهو ما يذكرنا، وإن بمشاعر مختلطة، بالاقتصادي النمساوي الكبير جوزيف سكامبيتر، وعبارته الشهيرة: «الإعصار الدائم للدمار الخلاق الملازم لكل الرأسماليات». وبينما تتقدم تلك الأمواج بقوة، فإنها تجتاح في طريقها الكثير من الضحايا، لتحتل أخبارها كل وسائل الإعلام، وقد اشتملت على أسماء شهيرة في عالم المال والأعمال مثل مصارف هاليفاكس الاسكتلندي ومورجان ستانلي وجولدمان زاكس التي اتجهت نحو نشاط مالي آخر حتى تتمكن من البقاء على قيد الحياة.
في هذه الأثناء، وبفعل عامل «تأثير الموجة»، تستمر كبريات الشركات والبورصات والمصارف بتسريح عشرات الآلاف من الموظفين ذوي المرتبات العالية. كما تختفي تدريجياً عادات الإنفاق لدى سائر الموظفين، ما سيؤدي تباعاً إلى إلغاء مزيد من الوظائف في الطبقات الأدنى وصولاً إلى نهاية السلم. أما المشروعات الصغيرة التي كانت تريد زيادة قوة العمل لديها، وحديثي الزواج الذين كانوا يريدون شراء أول شقة في حياتهم الزوجية، فقد صاروا الآن غير قادرين على تحقيق ما كانوا يخططون له. إن الكبار والصغار قد تعرضوا للخسارة في هذه الأزمة، و«تأثير الموجة» يتابع مفعوله ليصل إلى وكالة الاستثمار الصينية؛ فهي اليوم تلعق جراحها بعد أن كانت قد أودعت عدة مليارات من الدولارات في «فاني ماي» و«فريدي ماك».
وإذا ما ألقينا نظرة على بعض النتائج غير المتوقعة للأزمة، فسوف يتبين لنا أنه بينما ينكمش ما يسمى بـ«الاقتصاد المعولم»، فإن العديد من الشركات التي استطاعت المحافظة على وجودها، ستشعر بالضرر هي الأخرى بسبب عامل «تأثير الموجة». لذلك نرى الآن كيف تتأثر مبيعات شركتي «بوينغ» و«إيرباص» من الطائرات الحديثة التي كانت شركات الملاحة الجوية تتهافت عليها وتلح على سرعة استلامها. توقعوا أيضاً أن تزحف الموجة لتصل إلى تحت الترسانة البحرية لكوريا الجنوبية التي بدأت تشهد نقصاً ملحوظاً في عدد الطلبات التي تتلقاها من أجل تصنيع حاويات للعديد من الدول. وتوقعوا أن تتم إعادة النظر في خطط استكشاف النفط. ولا يبدو أن التواجد في (وادي السليكون) سيبقى مفيداً بعد الآن؛ ذلك أن شركات تصنيع أجهزة الكمبيوتر العملاقة، ستشهد هي الأخرى انخفاضاً في طلبات الشراء.
حتى الصين القوة العظمى الصاعدة هي الأخرى تتأثر بالتقلصات الرأسمالية البعيدة المصدر والتي يمكن أن تجعلها تتردد في استثمار مليارات الدولارات داخل السوق الأمريكية رغم النصائح التي يقدمها لها مستشارو «وول ستريت» بضرورة إيداع أموالها في ما يصفونه بـ«ملاذات آمنة» في أمريكا. فهل ينبغي على الصين أن تثق بالنظام الرأسمالي «اليانكي»؟ (أي الأمريكي الشمالي، تقال استخفافاً - المترجم)، ما الذي سيحدث لصادراتها الحيوية التي تستهدف أضخم وأسرع سوق استهلاكي في العالم؟ ويبقى السؤال الأهم: إلى أين تذهب الدولارات، وأين ستذهب سمعة أمريكا الطويلة الأمد، كملاذ آمن للاستثمارات؟
في المحصلة، ستكون أمريكا أكبر الخاسرين، وهنا لا أقصد فقط مستويات معيشة عشرات ملايين الأمريكيين ولكن أيضاً «ثقلها» العسكري والدبلوماسي في الشؤون العالمية. بينما كنت ألقي نظرة رثاء على كشف بيان راتبي التقاعدي، شعرت بأنني كنت على حق عندما شغلت نفسي بمعرفة ماذا كان يعنيه ذلك العنوان الذي قرأته في إحدى الصحف في مطار (هيثرو). ففي هذا العالم «المتعولم» اقتصادياً، ليس هناك من إنسان يستطيع العيش في جزيرة معزولة، ما ذكرني بالكلمات الخالدة للشاعر الإنجليزي (جون دون): «لا ترسل أحداً كي يعرف لمن تدق الأجراس.. إنها تدق لأجلكَ».
* بول كينيدي: مؤرخ ومدير مركز الدراسات الدولية في جامعة (ييل)، من مؤلفاته: «ظهور واضمحلال القوى العظمى»
عن «انترناشيونال هيرالد تريبيون»  

بول كينيدي*

ترجمة عادل بدر سليمان