«التهدئة» وصولاً إلى تعميم «العرقنة»!

منذ أيام محمد علي باشا لم يشبع قادة الغرب ومنظروه من إخضاع منطقتنا لمختلف أنواع التجارب وتبادل الأدوار، ومحاولات تطبيق فرضياتهم الرامية للسيطرة المباشرة وغير المباشرة على المنطقة وما تحتويه من ثروات وما تمثله من موقع جيو- استراتيجي.

وبالمحصلة فلا الغرب الاستعماري اقتنع باستحالة إخضاع شعوب المنطقة لمشيئته، ولا شعوب الشرق العظيم استكانت أو رضخت أو رفعت الراية البيضاء استسلاماً، رغم الفارق في ميزان القوى عدةً وعدداً. ولكن في نهاية المطاف كانت المقاومات في كل مرحلة من مراحل الصراع هي من أفشلت الحملات الاستعمارية كافة، وهي من تحولت إلى صنو الكرامة الوطنية والدفاع المشروع عن النفس والوطن.

وإذا كان لا يجوز قراءة الوضع الإقليمي إلا بالارتباط مع الوضع الدولي ومخططات التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني إزاء المنطقة، فإنه من الواضح أن الفرز الجاري في المنطقة يأخذ منحيين اثنين كما في سالف المعارك والحملات والمواجهات: جبهة تدعي ضرورة السيطرة على المنطقة «لصالح شعوبها» وتخليصها من سيطرة الرعاع عليها. وجبهة أخرى مقاومة خلقتها الضرورة الموضوعية تقول إن الاحتلال نفسه يولّد مقاومة لا تقهر.

هناك قراءتان للوضع الإقليمي الآن: الأولى مضللة، وهي تنظير للظاهرة من السطح وليس في العمق، وجوهر هذه القراءة أن طرفي الصراع في المنطقة وصلا إلى قناعة باستحالة استمرار المواجهة وبالتالي نضجت الظروف «للحلول الوسط» أو ما يسمى الآن بـ«التهدئة». بين من ومن؟ بين محتل وأصحاب أرض والحقوق التي يجب أن تستعاد مهما كان الثمن.

.. أما القراءة الثانية ـ ونحن من أنصارها ـ فهي على نقيض الأولى وتحذر من «التهدئة» التي تسبق العاصفة وذلك للأسباب التالية:

ـ ما يزال المشروع الأمريكي في مرحلة التعثر ولم يصل إلى طور الهزيمة، وإن أثخنته جراح المقاومة. كما أن أصحاب المشروع نفسه مازالوا يكابرون ويقولون: «إن الخروج من العراق والمنطقة قبل الانتصار هو الكارثة بعينها»، لذلك هم محكومون بتوسيع رقعة الحرب.

ـ إذا كانت واشنطن وتل أبيب فشلتا في فرض الحلول بالقوة، فهما لن تتوقفا عن المحاولة في هذا الصدد، وإن لجأتا مؤقتاً إلى مصطلح «التهدئة وصولاً إلى تعميم العرقنة» في معظم بلدان المنطقة عبر فك عرى التحالف بين أهم جبهات المقاومة من خلال الإيهام بتقديم «أثمان بلا رصيد» لهذه الجبهة أو تلك.

ـ من الخطورة بمكان أن يتوهمن أحد بوجود أطراف دولية يمكن أن تتحول بين ليلة وضحاها من دول إمبريالية إلى نصير للعرب ضد الاحتلال الصهيوني، أو نصير لشعوب الشرق ضد «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، فها هي بلدان أوروبا تشدد العقوبات على إيران منكرة عليها الحق بامتلاك برنامج نووي سلمي، في حين يلقى الكيان الصهيوني المدجج بالأسلحة النووية الدعم اللامحدود اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً. وهاهو نيكولاي ساركوزي يقف أمام الكنيست الصهيوني متعهداً بالحفاظ على «أمن إسرائيل» ومستخدماً مقاطع من التوراة ومفاخراً بجده اليهودي، ولم يعط العرب إلا المعسول من الكلام والوعود، خصوصاً بعد أن وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب!

ـ إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مراكز اتخاذ القرار الفعلي في واشنطن وتل أبيب تجمع على ضرورة «تدمير البرنامج النووي» الإيراني، «قبل الخريف وقبل فوات الأوان» بحسب تعبير الجنرالات الإسرائيليين القدامى والجدد، ندرك أن توجيه ضربة عسكرية لإيران أصبحت جدية أكثر من أي وقت مضى، وليس الهدف منها فقط إركاع إيران وإخراجها من المعادلة الإقليمية، كما يروج البعض، بل بداية توجيه ضربة قاضية لكل شعوب وبلدان المنطقة واستكمال عناصر تفتيتها جغرافياً وديموغرافياً، وبالتالي الوصول إلى أكبر أهداف واشنطن الاستراتيجية، ألا وهو السيطرة وامتلاك موارد الطاقة لاسترداد الموقع الاقتصادي الأول المفقود، بالقوة العسكرية وتجنباً لاحتمالات الانهيار الداخلي الذي يلوح في الأفق.

ـ مثلما نحذر من خطر القول والعمل بشعار «مصر أولاً، الأردن أولاً، لبنان أولاً.. الخ» والذي أدى إلى الخروج من الصراع العربي ـ الصهيوني والارتهان لسياسة واشنطن وتل أبيب، كذلك نحذر من محاولة أي بلد في المنطقة أو أية قوة سياسية وطنية، تجاهل حقيقة أن المخطط الإمبريالي ـ الصهيوني يستهدف جميع شعوب هذا الشرق العظيم بالتفتيت والاستعباد.

من هنا نرى أن المخرج الوحيد هو خيار المقاومة الشاملة، بمفهومها الواسع سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، وإعادة الاعتبار لمفهوم تضامن وتعاون جميع حركات التحرر الوطني لشعوب المنطقة الممتدة من بحر قزوين إلى البحر المتوسط في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير وما يتفرع عنه من تسميات أخرى.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 30 تشرين2/نوفمبر 2016 11:01