الدوحة – اسطنبول وقضايا المنطقة.. بين «القاضية» و«بالنقاط»

انسحاباً على تشكيكنا الدائم بالدورين القطري والتركي الملتبسَين، لم يمض أكثر من ساعة على الإعلان عما سمي باتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية بعد خمسة أيام من شد الحبال والمناورات التكتيكية والإستراتيجية فيما بينها، حتى جاء الإعلان عن الانطلاق الفعلي لمفاوضات «سلام» سورية - «إسرائيلية» غير مباشرة في اسطنبول، وهو ما يتجاوز مجرد الصدفة المحضة ويحمل أكثر من قراءة على المستوى الجزئي والكلي.

وبعيداً عن الجلبة الإعلامية المحيطة بالحدثين فإن إجابات بعض الأسئلة البسيطة المرتبطة بهما تذهب باتجاهات مغايرة إلى حد كبير:

هل يكفي «تبويس الشوارب» بين الفرقاء اللبنانيين، والإعلان عن اتفاق الدوحة بما تضمنه من حصول المعارضة على الثلث الضامن وما تلاه من فك لاعتصامها في وسط بيروت لانتهاء التنازع بين فريقي السلطة والمعارضة؟ وهل تكفي «النوايا الحسنة» لإعادة «جسور الثقة» بين طرفين بامتدادين إقليميين ودوليين متعارضين لم يعلن أحدهما التوبة أو على الأقل اعتذاره عن الارتباط بالمشروع الأمريكي الإسرائيلي ولم يعلن الثاني «تخليه» عن معارضة ذلك؟ وماذا سيترتب على ترحيل بعض الإشكاليات إلى بيروت مجدداً، ولاسيما حول تركيبة الحكومة – المتفق على عدد مقاعدها- وهوية رئيسها؟ وماذا عن تباين التأويلات حول موضوعة سيادة الدولة وحل قضية ارتباط السلاح بالتنظيمات السياسية اللبنانية؟ وماذا عن تهرب السلطة من المحاسبة عن مجزرتي حلبا وعاليه؟ وماذا سيكون رد السلطة على أي رد موعود من جانب حزب الله على اغتيال المناضل عماد مغنية؟

وفي الشأن السوري، هل يكفي الحديث عن إطلاق المفاوضات مع «إسرائيل» لإلغاء حقيقة الحشود والاستنفار العسكري المتبادل؟ ولماذا هذا التوقيت في العرض الإسرائيلي- التركي؟ وكيف سيكون شكل الجولان «المستعاد» افتراضاً، وما أوجه السيادة السورية عليه في «التسوية» المفترضة وسط حديث أكثر المتفائلين من الداخل الإسرائيلي عن منطقة منزوعة السلاح ومفتوحة لـ«مواطني البلدين»؟ وما سر تباين التصريحات الإسرائيلية بخصوص إطلاق المفاوضات بين تأكيد مكتب أولمرت ونفي قطعي سابق من وزيرة خارجيته وحديث وزير حربه باراك عن ضرورة إخراج سورية من «دائرة العداء» التي تشمل حزب الله وإيران وفصائل المقاومة الفلسطينية؟

إن اقل ما يمكن قوله في اتفاق الدوحة هو أنه هش ويشكل هدنة أمنية مؤقتة مرتبطة بالتطورات الإقليمية والدولية، وهو لأنه تحت رعاية قطر، المرتبطة عسكرياً وسياسياً بأمريكا وإسرائيل، ورعاية النظام الرسمي العربي الممثل بالجامعة العربية ولجنتها الوزارية، يعيد إنتاج نظام المحاصصة الطائفية اللبنانية عوضاً عن الخروج بلبنان إلى صيغة دولة المواطنة لا الطائفة، وكم كان محقاً الرفيق خالد حدادة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني عندما تفرد عن كل القوى الطائفية السياسية اللبنانية بانتقاده تغييب القوى الوطنية العلمانية (المترفعة عن الطوائف) عن اجتماع الدوحة الذي أُحضرت إليه من ضمن 14 شخصية تمثيلية قوى مجهرية بالمعنى العددي والتمثيلي على المستوى الوطني، وفقط لاعتبارات طائفية!

أما أقل ما يمكن قوله بخصوص مفاوضات اسطنبول فهو إنها تشكل محاولة سورية للقول إن دمشق تتعامل بجدية مع عروض السلام «الجادة» (وعلى الأرجح إلى أن يثبت العكس) أي أنها وبالنسبة للطرفين والوسيط التركي بينهما هي محاولة لكسب الوقت أو تمريره في حين تتفرد «إسرائيل» وحلفاؤها في السعي لفك تحالفات سورية وتقويض المنطق الذي قامت عليه سياستها الخارجية والقائل بشمولية السلام، إلى جانب «تسليح» أعداء وخصوم سورية السياسيين في المنطقة من شاكلة قوى 14 شباط بحجة تقول: «لماذا يأخذ علينا حزب الله اتصالاتنا بإسرائيل في وقت تجري فيه حليفته سورية مفاوضات معها وإن كانت غير مباشرة؟»

ومرة أخرى يعود السؤال لماذا هذا التوقيت في حدثي الدوحة واسطنبول؟ ولماذا تصوير وجود اختراق على المسار السوري -«الإسرائيلي» وعلى مستوى الانتصارات المعنوية والسياسية التي جناها حزب الله والمعارضة في الدوحة، ولاسيما لجهة التقاسم الحكومي وانتخاب الرئيس وتعديل نسب وشكل التمثيل في بيروت ولكن مع إسقاط الحديث عن قانون انتخابي جديد، وبعد تقاسم الأدوار بين «تراجعات» السنيورة-جنبلاط، و«تشدد» الحريري-جعجع فيما أسمياه بـ«الضمانات الأمنية»؟ وما معنى اتفاق الأطراف على انتخاب «الرئيس التوافقي» الأحد المقبل بعد فتح مجلس النواب؟ وما معنى مصطلح «توافقي» أصلاً؟ أي مرة أخرى هو حالة «توفيقية» بين طرفين ومشروعين لم يعلن أقطابهما المحليون والإقليميون والدوليون تراجع أي منهما علناً عن مشروعه أو انهزامه اعترافاً. وبالتالي وبعد إبقاء الموالاة اللبنانية لمسألة «سلاح المقاومة» ورقة تحت الطاولة لحين الطلب التفجيري الأمريكي الإسرائيلي، فإن الجيش اللبناني بعقيدته ووحدته وحكمته التي أظهرها في أحداث بيروت والجبل مؤخراً ومواقفه المنسجمة بشكل واضح مع المقاومة ضد إسرائيل ً هو الهدف التالي على الدريئة، ولاسيما مع طرح مسألة تسليحه وتأهيله أمريكياً. وهنا مايزال الحكم مبكراً على السلوك اللاحق للرئيس التوافقي المفترض، العماد ميشيل سليمان، في وقت لم يكن فيه سلفه العماد إميل لحود، المنحاز بوضوح لأحد الفريقين/ المشروعين، يشكل ذاك الالتباس المفترض الآن.

إن المطلوب ضمن منظور «الضرورة» الغربية من هذه «الصدفة» يتمثل ببساطة في المضي في إستراتيجية ضرب المقاومات في المنطقة، وضمناً سعي تل أبيب وواشنطن لتكتيف سورية وحزب الله عند وقوع أي عدوان بات بدلالة أكثر من مؤشر أكثر من وشيك على طهران، وإن نفي بوش للتسريبات الصحفية الإسرائيلية بهذا الخصوص لا يعني نفيها فعلاً وبالضرورة. وبالمثل فإن هذا «التكتيف» مطلوب عند وقوع أي عدوان واسع النطاق وخارج عن الحدود اليومية من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة بعد حديث أولمرت عن «إجراءات حاسمة قريبة»، وهي إجراءات لا يستطيع القيام بها إلا بعد ضمان الاستفراد بقوى المقاومة ودول الممانعة في المنطقة، من غزة في فلسطين إلى الصدر والموصل في العراق. وهو ما تعنيه بالضبط وبشكل مباشر مقولة «الضمانات الأمنية».

وإذا كان لبنان يشكل إحدى ساحات اختزال وإعادة إظهار الصراع الإقليمي والدولي بتجليات وتجسيدات داخلية، فإن الموالاة أثبتت عجزها عن تسديد «ضربة فنية قاضية» للمعارضة ورأس حربتها حزب الله، اللذين امتنعا في المقابل، ولاعتبارات قد تتباين الآراء حولها، عن تسديد تلك الضربة رغم امتلاكهما لمقومات ذلك. وبالتالي أصبح الطرفان، يعتمدان تكتيك «تسجيل النقاط» ومحاولة الكسب بها. ويبدو أن ذلك يشكل أيضاً امتداداً لطريقة تصارع مشروعي الهيمنة ونقيضه بين القوى المتصارعة في المنطقة وعليها، وهو الذي سيستمر حتى وقوع انعطافة عسكرية كبرى ما.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.