جدار الفولاذ القاتل

استطاع العدو الصهيوني أن ينعش «عقول» بعض القوى العربية المسيطرة، داخل بلدانها أو في حدود الطوائف والمذاهب التي تنتمي إليها، على إعادة إنتاج واقع ووظيفة الجدار الاحتلالي التقسيمي و«الإلحاقي» داخل مناطق حدود تلك الدولة أو كيان تلك الطائفة/ المذهب. وإذا كانت الصورة التي بدأت ترتسم في بنية الكيانات والتكتلات الممزقة تعلن عن مرحلة الجدران في صيرورة تحرك المجتمعات، فإن ماتؤكده المعلومات المتسربة عما يدور في منطقة الحدود المصرية/ الفلسطينية مع قطاع غزة، ينبئ بما هو انتقال بالدور/ الوظيفة من رسم التخوم وحراستها بين دولة ودولة أو بين كيان وآخر، إلى المشاركة في مصادرة حق الإنسان في الحياة «المحدودة»، والقيام بدور الشريك المباشر عبر استكمال مهمات التجويع والضغط على عقول ومشاعر البشر، تحقيقاً لـ«القتل الهادئ»، من خلال تطوير وسائل الحصار بحيث تصبح عصية على الحفر والاختراق.


لم يكن الخبر الذي سربته صحافة العدو الصهيوني قبل بضعة أيام عن بدء العمل بالحفارات العملاقة في مناطق الحدود المصرية/ الفلسطينية، كاذباً. فقد تأكدت بالعين المجردة عمليات حفر وتكسير وتقليع ونقل للأحجار والصخور باستخدام عدد من الحفّارات والرافعات الضخمة، كخطوات أولية لتجهيز الجدار الفولاذي الذي سيغوص في باطن الأرض لعمق يتراوح بين  18 و30 مترًا حتى لا يستطيع أهل غزة المحاصرون حفر أنفاقهم. لقد تمنى الكثيرون أن يكون الخبر مختلقاً ومفبركاً، رغم ماأكدته عيون القاطنين والعابرين في المنطقة. لكن صحيفتي «الشروق» و«المصريون» الصادرتين في «القاهرة» أكدتا حقيقة بدء عمليات الحفر العميقة والواسعة. صحيفة «الشروق» الصادرة يوم الأحد 13/12 نشرت تقريراً تحت عنوان: جدار رفح العظيم تحت الأرض، يتضمن بعض المعلومات المذهلة والمذلة في الوقت ذاته.  فقد كشفت عن حائط حديدي بدأ العمل في بنائه بين سيناء وقطاع غزة. وقد تم الانتهاء من إقامة جزء منه يمتد بطول 5 كيلومترات و400 متر. وهو غير ظاهر للعيان لأنه يصل إلى عمق 18 مترا تحت الأرض. وهو يتكون من ألواح من الصلب بعرض 50 سنتيمترا وطول 18 مترا، صنعت خصيصاً في الولايات المتحدة. وهي من الصلب المعالج الذي تم اختبار تفجيره بالديناميت. هذه الألواح يتم زرعها في باطن الأرض بواسطة آلات ضخمة تحدد مقاييسها بالليزر. ثم يجري لصقها بواسطة تداخل الأطراف التي تسمى «العاشق والمعشوق».
وقد أكدت المعلومات أن العملية تتم تحت إشراف مجموعة من الخبراء العسكريين الأمريكيين، الذين يعملون- كما يقول التقرير- على إكمال ملحقات المنظومة التقنية الخاصة برصد الأنفاق، التي تتضمن إنشاء بوابتين فريدتين من نوعهما في الشرق الأوسط، تسمحان بمرور الشاحنات دون تدخل يدوي، في الوقت الذي يستطيع فيه نظام المراقبة الالكتروني كشف أية أسلحة أو متفجرات تحملها الشاحنات.
أما صحيفة «المصريون» الصادرة يوم الثلاثاء 15/12 فقد نشرت تقريراً للكاتب «عادل الشريف» يستشهد فيه بحديث السيدة «كارين أبو زيد» المفوض العام للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) خلال ندوة أقيمت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة يوم الاثنين 14/12حضرها عدد من أساتذة الجامعة وطلابها، حول صحة المعلومات التي سربت أخيراً بشأن بناء الحكومة المصرية للجدار الفولاذي على حدودها مع قطاع غزة. المسؤولة الدولية أكدت على (أن المعلومات التي لديها تؤكد أن تكلفة بناء الجدار كاملة تكفلت بها الحكومة الأمريكية، وأن الجدار يبنى من الفولاذ القوي وأنه صنع في الولايات المتحدة وقد تم اختبار مقاومته للقنابل).
اللافت لنظر المراقبين كانت ردود فعل الحكومة المصرية على الحدث. فما بين النفي، والعتب والنقد لما قامت به صحافة العدو الصهيوني من نشر للمعلومات، تعرضت مصداقية أكثر من مسؤول رسمي مصري للتشكيك والسخرية. وهذا مادفع ببعض المسؤولين ممن اتصلت بهم صحيفة «الشروق» إلى التوضيح بأن مايحصل هو(شأن مصري بحت يرتبط بممارسة حقوق السيادة الوطنية)! لكن المواطن العربي داخل مصر وخارجها يتساءل عما تركته اتفاقية كامب ديفيد الكارثية لشعب مصر من سيادة. لقد دفع هذا العمل الذي تقوم به الحكومة المصرية مع العدو الصهيوني/ الأمريكي من أجل تشديد الخناق على شعبنا الصابر الصامد في غزة، بالمسؤولة الدولية كارين أبو زيد التي تعرف من خلال الوثائق والتقارير والأرقام والجولات الميدانية، المعلومات الدقيقة عن كل مايسببه الموت البطيء بسبب الحصار الخانق لمواطني غزة، لتعلن من على منبر الجامعة عن (أسفها لاشتراك الحكومة المصرية في مثل هذه السيناريوهات التي وصفتها بأنها سيئة السمعة ولا تخدم إلا «إسرائيل»)، مؤكدة على (أن المردود السلبي طويل المدى على الأمن القومي المصري، سيكون كبيراً في حال شن أي هجمات «إسرائيلية» على قطاع غزة والتي لم تستبعد أن تكون قريباً).
مابين جدار الضم والفصل الاحتلالي الوحشي في فلسطين، والكتل الإسمنتية الضخمة المتراصفة للجدران الطولية أو الأفقية في شوارع وأحياء بغداد وغيرها من المدن العراقية المحتلة والمستباحة، صفات مشتركة من حيث وظيفتها، وطبيعة مواد بنائها، وبوابات عبورها بالبطاقة العادية أو الممغنطة. لكن جدار الفولاذ الجديد الذي يمتد في عمق الأرض، كان استثنائياً في الاتجاه. إنه هنا لمنع لقمة العيش وحبة الدواء وقلم الرصاص.
جدران الذل والعار الراهنة لاتختلف كثيراً عن جدران الخزان في رواية «رجال في الشمس» للشهيد «غسان كنفاني». لكن قبضات أبناء الأمة في هذا الزمن، لن تكتفي فقط بدق الجدران، بل بنسفها وتدميرها واختراقها.