جبران الجابر جبران الجابر

الطغمة المالية.. أفقدت الشرائح المتوسطة دورها ومكانتها

قد لفتت وقائع الثورتين التونسية والمصرية النظر بعمق إلى الدور الذي لعبته شخصيات ومجموعات تنتمي إلى مختلف الشرائح الوسطى، وألح ذلك التساؤل على أذهان السياسيين والمفكرين ومختلف الأحزاب، وتمركز ذلك الإلحاح على ضرورة تقديم تفسير لدور طلائع من شرائح الطبقة الوسطى أسهمت بفعالية في قيادة الثورة.

ومن نافلة القول إن الأمر لا يجد إجابة كاملة في الضرر الاقتصادي والمعاشي الذي لحق بالشرائح المتوسطة، التي ظلت بعيدة عن الفقر والعوز، واستمرت في تأمين مستوى معاشي لا ينذر بالجوع والفقر، وإن تقلص دورها الاستهلاكي وتراجعت قدراتها الشرائية وعجزت شرائح منها عن تأمين المستوى الخدماتي الذي عاشته سابقاً.

إن التمايزات في الطبقة الوسطى وشرائحها، حيث تزايدت الواردات المالية لشرائح منها بفعل تموضعها في هيكل الفساد وإشغالها حلقات وسيطة في سلم التراتب الوظيفي ورغم ذلك فإن طابع دور تلك الشرائح ظل وطنياً ومؤيداً للثورة بفعالية.

وهكذا فإن التفسير الاقتصادي لا يشكل سنداً عميقاً ووحيداً للبرهنة على الدور الذي اضطلعت به الطلائع المنتمية إلى الشرائح الاجتماعية الوسطى.

لقد كانت الشرائح المتوسطة بعيدة عن حافة الهاوية حيث تمكن الحكام من جعل الجماهير الشعبية من عمال وفلاحين وحرفيين وأصحاب ورش ومتاجر صغيرة، تمكن الحكام، من جعل تلك الجماهير تعيش سنوات على حافة الهاوية بحيث لا تندفع الجماهير إلى الهاوية وتظل مشغولة في الركض وراء رغيف الخبز ولا تجد وقتاً أو مساحة في الفكر لإشغالها بصورة دائمة وجدية بالقضايا الوطنية، وتحول دون تأمين ظروف تساعد على ممارسة الفعل السياسي، ناهيك عن دور الأجهزة الأمنية والهياكل النقابية المشلولة.

أما الشرائح المتوسطة في وضعها الاقتصادي ومستواها المعاشي فإنها كانت تجد متسعاً لتطوير معارفها وإعمال الفكر في قضايا الوطن والسياسات الداخلية والخارجية.

أن التنويه الضروري هو أن محفزات دور طلائع من الشرائع المتوسطة طورت قدراتها المعرفية وذهبت طلائعها إلى فعل إيجابي على الصعيد السياسي، وحفز ذلك دور الطغمة المالية الأوليغارشية التي أضعفت دور وهيبة الشرائح المتوسطة على المستوى الاجتماعي وحالت دون ممارسة دورها الوظيفي الفاعل باعتبارها حلقة متوسطة في مواقع السلم الوظيفي، ناهيك عن أن الفرز في صفوف تلك الشرائح كان محدود النتائج، سواء في العمل الوظيفي أو خارجه. صحيح أن أفراداً من تلك الشرائح انتهوا إلى وضع في صلب عداد الطغمة الأولبغارشية، لكن الغالبية الساحقة وجدت نفسها قنوات للفساد ومراكزه ومفاصله الأساسية وذلك شأن من كانوا في دوائر الدولة ودواوينها، أما من كانوا من تلك الشرائح المتوسطة يمارسون أعمالهم (الحرة) فقد وجدت غالبيتهم أن الفساد المستشري تزايدت تأثيراته وتداعياته على قيمهم ومكانتهم واحترامهم اجتماعياً وزاد الطين بلة الدور غير المحدود لبلطجية النظام الأمني.

إن الشرائح المتوسطة كونت لنفسها قيمة اجتماعية ووظيفية هامة، فهي ملتقى التيارات الصاعدة من الجماهير الشعبية والتيارات الهابطة من المفاصل الوظيفية، وقد انهار ذلك الدور بفعل ما قامت به الأجهزة الأمنية وإمساكها القرار الذي كان فعلياً من طبيعة عمل الشرائح المتوسطة والتي اعتادت على التأثير الفاعل من خارج الإدارات، أو بحكم عملها في إدارات الدولة. إن واقعها المتوسط جعلها في ظروف قوانين الطوارئ قوة مهمشة وغير فاعلة ولا دور مؤثراً لها، وقد أفقدها ذلك دورها الاجتماعي الذي تكون على قاعدة علاقاتها في الأوساط الشعبية التي كانت تجد فيها مساعداً لحل الكثير من مشاكلها الآنية والتي تحولت إلى الإهمال تحت تأثير العقلية الأمنية التي كانت تمارس بشكل مفضوح إهمال قضايا الجماهير الشعبية والتلاعب بها وإخراج المسائل عن مساراتها القانونية والتدخل في كل صغيرة وكبيرة.

إن الشرائح المتوسطة شكلت في تور المجتمع البرجوازي الصناعي الزراعي قوة للقوانين التي تخدم ذلك النظام، وهي قوة في وضع القوانين وقوة في تطبيقها وقد تآكل ذلك الدور بفعل مصالح الطغمة المالية الفاسدة وتزايد دور الأجهزة الأمنية.

وخلاصة الأمر تكمن في أن تفاعلات وتداعيات العلاقات الرأسمالية الطفيلية أفقدت الشرائح المتوسطة دورها وقيمتها كرامتها الوطنية والذاتية وأضرت بمصالحها الاقتصادية والمعاشية.