من القوة الناعمة إلى الثورات المضادة..إلى ماذا؟

لم تعان الولايات المتحدة الأميركية أزمة كهذه، فما واجهته الولايات المتحدة من أزمات دولية كانت في عصور الازدهار والقوة، وخلال القرن الماضي كانت الأزمات تعني انطلاقاً توسعياً للولايات المتحدة بينما تعاني اليوم من أزمة لا نبالغ لو قلنا عنها إنها أزمة وجودية.

القوة الناعمة، وهي العبارة التي دشّن أوباما بها عهداً جديداً ليعلن عن أمرين، الأول وهو ما ادّعاه حول تغيّر في السياسة الخارجية لأمريكا بناءً على مستويات العداء التي تضاعفت في عهد بوش الابن.

والثانية هي الأمر الواقع الذي فرض حقيقة واقع التراجع الأميركي إلى «مفهوم القوة الناعمة» ألا وهو أزمتها الاقتصادية التي تهدد العالم الرأسمالي ككل.

مالم يكن بالحسبان حقيقة هو الحراكات الجماهيرية في المنطقة العربية، ونقول العربية تحديداً تمييزاً لها عن تلك الحراكات الغربية، حيث تمثل الديمقراطية الغربية بأدواتها المعتمدة على صندوق الانتخابات والدعاية السياسية الإعلامية أداةً جيدة في تنفيس الاحتقان الجماهيري ولو مؤقتاً . إلا أن الأنظمة العربية تستند إلى الديكتاتورية أي إلى القوة في مواجهة أي ضغط جماهيري وهي بغالبيتها لاتشبه إلا الأنظمة العسكرية التي حكمت أميريكا اللاتينية وسرعان ماسقطت سقوطاً مدوياً بفعل تحركات الجماهير هناك . أي أن الولايات المتحدة لاتملك حلاً  لمواجهة الجماهير في منطقتنا سوى دعم دكتاتوريات العمالة كمصر وتونس، أو بالتدخل المباشر لإجهاض الحالة الثورية في رحمها كما فعلت في ليبيا والبحرين وسورية والعراق سابقاً. 

جوهر الفكرة أن ماتعرفه الولايات المتحدة في ذروة قوتها منطقتنا هو التعاطي مع الأنظمة ولكن ماذا عن مواجهة الشعوب في لحظة ضعفها؟

حاولت الولايات المتحدة على مايبدو الإجابة على هذا التساؤل باستنساخ حلول أوروبا الشرقية عبر فكرة الثورة المضادة، والتي غزت من خلالها كل من مصر وتونس بشكل واضح من خلال التحضير السريع للمرحلة الانتقالية، حيث تم إتاحة المجال للقوى السياسية التي تعرف بعدم عادائها للولايات المتحدة ونهج صندوق النقد الدولي في التنمية.  هكذا رسا الاختيار سريعاً على الإخوان المسلمين في كل البلاد التي تعرضت لاحتجاجات أو حتى في تلك البلدان التي لم تتصاعد فيها الاحتجاجات بشكل دراماتيكي.

بدت الولايات المتحدة وكأنها امتصت صدمة ميدان التحرير وسيدي بوزيد، لابل استطاعت إنتاج الحل الشافي عبر استنساخ تجارب الإخوان في معظم البلدان العربية وهي ماضية أيضاً حتى اللحظة في خنق الدولة السورية بالعنف تمهيداً لضربة إيران العسكرية. 

-إن أهم مايؤكد الضعف المتزايد للولايات المتحدة هو اضطرارها للاعتماد على حلفائها المباشرين في المنطقة للعب دور أكبر في العديد من المجالات، ففي الجانب الاقتصادي طلب صندوق النقد من دول الخليج زيادة التمويل للاستمرار في تحفيز النمو العالمي وهو مايعني زج أهم الاحتياطيات الدولية المالية في مواجهة الأزمة، والتي تشير أغلب المؤشرات الاقتصادية إلى أنها تتجه إلى كساد كبير خاصة بعد اجتياح سياسات التقشف لمعظم أنحاء أوروبا. على صعيد آخر دفعت الولايات المتحدة كل من قطر والسعودية وتركيا وهم حلفاؤها الاستراتيجيون في المنطقة إلى لعب دور أكبر في الملفين السوري و الإيراني إضافة إلى ملفات فلسطين ولبنان.

تكمن معوقات المشروع الأمريكي في أن يفضي هذا الترتيب الجديد للخارطة في المنطقة إلى حلول جذرية لأزمتها لكن ما لاتستطيع حتى اللحظة الولايات المتحدة أن تحسمه هو ثلاثة أمور:

1-هو إمكانية تجاوز الأزمة الاقتصادية لمرحلة الكساد وهو مالايراه معظم الاقتصاديين الدوليين أمراً ممكناً حتى اللحظة.

2-هو قدرة الولايات المتحدة على تصفية القوة الإيرانية دون مواجهة عسكرية، فأي مواجهة عسكرية قد تؤدي إلى قلب الموازين ضد الهيمنة الأمريكية أو فتح جبهة اقتتال عالمية غير محسوبة النتائج والتكاليف.

3-هو نجاح الولايات المتحدة في الهيمنة على شعوب المنطقة  مرة أخرى  ولكن هذه المرة عبر الثورة المضادة، وهي التي ترى اهتزاز عروش الديمقراطية في أوروبا الغربية وفي قلبها وول ستريت فمابالك في المنطقة العربية المحتقنة. لقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى استخدام الولايات المتحدة لمفهوم القوة الناعمة كشكل من أشكال التراجع ومن ثم استخدمت أسلوب الثورات المضادة في مواجهة الحراكات الجماهيرية، ولكن ماذا بحوزة الولايات المتحدة لتستخدمه في مواحهة استمرار الأزمة الاقتصادية مع تصاعد الحراكات الجماهيرية في كل العالم وفي لحظات ضعفها المتزايدة!!