أوسلو..مراجعة نقدية

لا يمكن فهم مسار القضية الفلسطينية دون الوقوف عند نقطة مفصلية في تاريخه المعاصر وهي اتفاق أوسلو والتوسع في تحليل محتوياته واتجاهاته، والإحاطة بالقوى الفاعلة فيه، والظروف الموضوعية والذاتية التي رافقته.

سنحاول في هذا الملف الذي ستعالجه جريدة قاسيون إجراء مراجعة نقدية للاتفاق في ظل المتغيرات الراهنة، وذلك استناداً لكتيب الباحث الفلسطيني منير شفيق من خلال تفنيد وتلخيص كتاباته في هذا الموضوع، وسيتم تقسيمها إلى ثلاثة محاور وهي: المقدمات السياسية للاتفاق، الجوانب الإدارية والأمنية وقضايا التعاون الإقليمي والاقتصادي  وسنتناول في هذه الحلقة المقدمات السياسية.

وُقّع اتفاق أوسلو أو اتفاق (غزة – أريحا) للحكم الذاتي الفلسطيني بين منظمة التحرير الفلسطينية و»إسرائيل» في واشنطن في 13 أيلول 1993، ويعتبر أول اتفاقية رسمية مباشرة بين «إسرائيل» ممثلة بوزير خارجيتها آنذاك شمعون بيريز، ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بأمين سر اللجنة التنفيذية محمود عباس، وقد وقع عليها كل من ياسر عرفات واسحق رابين تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.

الانعطاف التاريخي:

شكّل اتفاق أوسلو وترجمته الاقتصادية لاحقاً في اتفاق باريس، واتفاقات القاهرة المتعلقة بالحكم الذاتي، انعطافاً أساسياً في المسار الذي خطته حركة التحرر الفلسطينية، ويعتبر الانعطاف الكبير والخطير الثالث حيث سبقه الانعطاف الأول بتبني برنامج النقاط العشر، وقرارات الرباط الخاصة باعتبار منظمة التحرير «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، الذي تمثل ببداية التخلي عن المنطلقات والثوابت التي قامت على أساسها انطلاقة الثورة الفلسطينية ومن ثم انتهاج سياسة السعي للدخول في المعادلة العربية والدولية.

أما الانعطاف الثاني فقد كان القبول بكل قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بما يتضمن من اعتراف ضمني بقرار التقسيم وفيه حق إقامة الدولة «الإسرائيلية»، وقرار 242 وفيه مبادلة الأرض بالسلام، ثم جاء قرار المجلس الوطني ليقبل من حيث المبدأ بالمشاركة في مؤتمر مدريد وبالمفاوضات المباشرة فكان هذا الانعطاف المكمل للانعطافة الأولى وبداية مسار جديد حيث ستسقط اللاءات المتعلقة بـ «لا للاعتراف بالدولة الإسرائيلية» «لا للصلح» «لا للمفاوضات المباشرة».

ثم جاء الانعطاف الثالث في اتفاق أوسلو تتويجاً للانعطافة الثانية إذ سقطت اللاءات، وأعلن عن بداية طريق الحل المنفرد حيث كان اتفاقاً فلسطينياً – «إسرائيلياً» صرفاً.

مسار التسوية:

لم يتوقف طرح المشاريع لتسوية القضية الفلسطينية سلمياً، منذ إعلان وعد بلفور، ولاسيما بعد قيام الدولة ال»إسرائيلية» حتى الآن، فقد كان من الضروري باستمرار أن يحاط الوضع الفلسطيني والعربي بأمل إيجاد مايسمى «حل عادل». وذلك حتى يتوقف زخم الاستعداد لمواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية، وتظل المبادرة ولاسيما العسكرية بيد العدو الصهيوني فيما كان هذا العدو يحقق توسعاً في أرض فلسطين ويفرض سلطاته.

 فعندما كانت الأصوات الفلسطينية والعربية ترتفع دعوة للمواجهة والمقاومة، أو ضغطاً على الحكومات العربية للاستعداد والحزم في التصدي للعدوان، كانت الدول الكبرى تنبري لتطرح مشاريع للتسوية وأحيانا تؤخذ قرارات في هيئة الأمم المتحدة تطالب الكيان ال»إسرائيلي» بالعودة إلى حدوده السابقة وتدعو إلى إحلال السلام.

ازدادت هذه السمة بروزاً بعد العدوان ال»إسرائيلي» في حزيران 1967 حيث أخذ الأمر يتجه إلى منحى آخر بعد توقيع المعاهدة المصرية-ال»إسرائيلية» فقد استطاعت الإدارة الأمريكية أن تجر أغلب الحكومات العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية للتسليم بالقواعد التي وضعها بوش الأب وبيكر لمؤتمر مدريد وكان من الواضح أن تلك القواعد تلبي غالبية الشروط ال»إسرائيلية» لإطلاق عملية المفاوضات المباشرة لاسيما فيما يتعلق بالمسار الفلسطيني، فقد أصبح قرار 242 مرجعاً هلامياً واهياً في المحادثات وأصبح الموضوع يدور حول الحكم الذاتي وصلاحيات الحكم الذاتي أي أصبح كل ما يتعلق بالموضوع الفلسطيني بما في ذلك القدس في مرتبة دنيا أو مؤجلة بعد إعطاء الأولوية لموضوع الحكم الذاتي، وهذا ما كرسته اتفاقية أوسلو حيث تم الالتفاف على قضية القدس وعودة اللاجئين من خلال تأجيل بحث تلك المواضيع لمرحلة قادمة أي ترك مصيرها لما يمكن أن يتفق عليه الطرفان لاحقاً دون أن تكون هنالك مرجعية ملزمة لزوال الاحتلال .

تنامي وزن العدو في العقل والواقع:

وللإحاطة أكثر بوجهة النظر الأمريكية - الإسرائيلية حول عقلية التفاوض مع الفلسطينيين يمكن العودة إلى تقرير معهد واشنطن الذي صدر تحت عنوان «متابعة السلام- إستراتيجية أمريكية لعملية السلام العربية – الإسرائيلية»، حيث يرى التقرير في تقويمه للوضع الفلسطيني أنه : لما كان الفلسطينيون هم الطرف الأضعف والأبعد من تحقيق أهدافه والخاسر الأكبر من استمرار الوضع الراهن فسيبدو أنهم هم الذين سيكسبون أكثر من تقدم العملية، وهذه رسالة أولى تريد أن تقول للفلسطينيين اقبلوا بأي شيء وستكونون بهذا أكثر من يكسب لأنكم الخاسر الأكبر من استمرار الوضع الراهن وهي قناعة يراد إدخالها في العقل الفلسطيني المفاوض لينهزم منذ البداية فيتنازل عن كل الحقوق الفلسطينية حتى في حدودها الدنيا التي يطالب بها ويرضى بأي فتات يرمى إليه ثم يقنع نفسه بأنه الكاسب الأكبر.

لقد جاء اتفاق أوسلو في ظل زيادة الدور الاستراتيجي للكيان الصهيوني مع تغير وضع الإدارة الأمريكية عالمياً وإقليمياً بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي ونشوء نظام دولي جديد سيقاد من قبل الولايات المتحدة قيادة منفردة، وقد سبقه إعلان الرئيس كلينتون إثر انتهاء محادثاته مع رابين في آذار 1993 حيث أُعلن عن الارتفاع بمستوى تحالفهما الاستراتيجي إلى درجة أعلى لتصبح «إسرائيل» شريكاً كاملاً للولايات المتحدة الأمريكية في كل ما يجري من ترتيبات في المنطقة.

إن القول إن اتفاق أوسلو كان خطة على طريق استعادة بقية الضفة الغربية وقطاع غزة واستعادة القدس الشرقية وإقامة الدولة الفلسطينية، كان تقديراً يخالف المسار على هذا الطريق، وهذا كله أمر منطقي مادام هنالك من يجعل سقفه ضمن حدود ميزان القوى المعطى في حينه دون محاولة لتغييره أو تعديله، فيسوّغ كل ما يقبل به من خلال الحديث عن سوء الأوضاع العربية أو عن الحصار المضروب على منظمة التحرير أو عن ميزان القوى العالمي والعربي والإقليمي كقدر لا رادّ له.

آخر تعديل على السبت, 22 تشرين1/أكتوير 2016 23:32