توافق الخيبة.. السعودية وتركيا تتعاونان «استراتيجياً»؟

توافق الخيبة.. السعودية وتركيا تتعاونان «استراتيجياً»؟

بعد «مرحلة جفاء»، في سياق تنافس إقليمي تحول، في ملفات محددة، إلى صراع علني كاد يحيل العلاقة بين البلدين إلى «قطيعة دبلوماسية رسمية»، تعود العلاقات السعودية- التركية إلى حالة من التنشيط السياسي..! 

يفتح التقارب الجديد بين الرياض وأنقرة تساؤلات عديدة حول طبيعة هذا التقارب وتوقيته، وسط التغيرات العاصفة التي تطرأ على المشهد الإقليمي والدولي في هذه المرحلة التي ترقب انهياراً في نظام الهيمنة والاستئثار، وصعوداً للعالم متعدد الأقطاب.

تصاعدت حدة الخلافات بين السعودية وتركيا، على خلفية سلوك كل منهما حول الجبهات التي شهدت حراكات شعبية واسعة في المنطقة. ورغم أنهما اشتركتا نسبياً في التوجهات حيال الأزمة السورية (في إطار منطق التنافس الإقليمي)، إلا أن الخلاف ظهر حاداً في موقف كل منهما من تبدلات المشهد السياسي في مصر، والتدخلات المتناقضة للبلدين في الأزمة الليبية، فيما قوبلت مفاوضات النووي الإيراني بحدة وتصعيد سعودي من جهة، وحذر تركي، من جهة أخرى..

انعطافات قسرية

منذ اشتعال الملفات التي رسمت لوحة الصراع الإقليمي، كانت محكومة بالتوجهات العامة للأقطاب الدولية. وعلى أساس موازين القوى الدولية المتغيرة بتسارع، اتضح وأخذ يتأكد في العام الماضي تطور العجز الأمريكي عن الاستئثار المنفرد بمخرجات أي ملف مستعصي في العالم. وإن كانت بدايات هذا العجز قد ظهرت في الأزمة الأوكرانية، ثم لجم واشنطن عن التدخل العسكري المباشر في سورية، فإن التظهير الأعمق للعجز الأمريكي تمثل في حسم الملف النووي الإيراني، مع ضمان حقوق الشعب الإيراني في إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، آخذين بعين الاعتبار البراغماتية الأمريكية في الصراع على النفوذ الدولي، أي أن الولايات المتحدة- إذ «تنسحب» من أحد الملفات الأساسية- فإنها تتجه لفتح ملفات أخرى، بما يتناسب مع حدة الصراع الدولي.

لكن الهدف من الإشارة إلى الملف النووي الإيراني كـ«نقطة علّام»، هو الانعكاسات الإقليمية على حلفاء واشنطن في المنطقة: تحديداً السعودية وتركيا. فإذا تلقت الولايات المتحدة انعكاسات هذا الملف كخسارة تخص مجمل الوزن الدولي لها في العالم، فإن الحلفاء المذكورين معنيون بالتبعات المباشرة إقليمياً لإمكانية صعود قوة إقليمية ذات إطلالة دولية كإيران، بما تحمله هذه القضية من تخفيض متوقع للأوزان السعودية والتركية المكتسبة سابقاً تحت المظلة الأمريكية.

بطبيعة الأحوال، فإن الخروج التدريجي المنتظم للولايات المتحدة من المنطقة، لا يعني أن هذه القوة الدولية تخلت عن جميع مكتسباتها في المنطقة للأقطاب الأخرى. من هنا، فإن السلوك السعودي- التركي، لا يزال تحت أنظار واشنطن، ويلاقي الترحيب الضمني منها، باعتباره «محاولات بالوكالة المجانية»، على أساس تعميق التوتر إلى أقصى حد ممكن، دون أن تتلقى واشنطن تبعاته المباشرة، ولو أدى ذلك الأمر إلى ارتدادات داخلية على الحلفاء أنفسهم. فهذا لا يفسد منطق خريطة الحريق المرغوبة أمريكياً.

تجارب التحكم أحادي الجانب

في سياق منطق التنافس الإقليمي، فإن المحدد الرئيسي للسعودية وتركيا في تصعيداتهما الأخيرة هو في القدرة على إحداث تغيير منفرد، يرفع الوزن النسبي لكل منهما. وعليه، تأتي «عاصفة الحزم» و اسقاط المقاتلة الروسية «سو-24»، وغيرها من الأمثلة كالتصعيد السعودي- الإيراني، ودخول الفوات التركية إلى العراق مؤخراً، لتؤكد على مثل هذا التصور، إلا أن هذه المحاولات، بأغلبها، اصطدمت عملياً بواقع راسخ يؤكد استحالة حل أي قضية بقوة الأمر الواقع.

وبما أن تجارب التحكم هذه ليست «مجانية»، أي أنها ليست خالية من تبعات عكسية على مستقبل الحضور الإقليمي، بل حتى على المناخ الداخلي، لهذه الدول، فإن تحركاً تجريه الدولتان يمكن تسميته بـ«تحالف المأزومين»، يهدف إلى تخفيف وطأة النتائج، بعد ميلان الملف اليمني والملف السوري إلى الحل بإرادة دولية، أكثر ما هي إرادات إقليمية، واتساع التنافس الإقليمي بعد القرار بوقف العقوبات الاقتصادية على طهران، واستعادة مصر التدريجي لدورها الإقليمي الفاعل.

عودة التنسيق المشترك

أواخر الشهر الماضي، قام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بزيارة إلى الرياض، التقى خلالها بالملك السعودي، ليخرج الطرفان بعد المباحثات، باتفاق على إنشاء «مجلس تعاون استراتيجي» مشترك يهدف إلى «توثيق العلاقة بين البلدين». وعقب اللقاء، عقد وزيرا الخارجية، عادل الجبير وجاويش أوغلو، مؤتمراً صحفياً أكد خلاله الجبير على «أهمية هذا المجلس في تحقيق الأمن والاستقرار، ومواجهة التحديات التي تمر بها المنطقة»، مضيفاً أن «الهدف أيضاً هو تعزيز العلاقات لخدمة البلدين والشعبين، في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة، والتحديات التي تواجهها الدولتين في سورية والعراق واليمن وليبيا».

وإن كان التنسيق، الجاري مؤخراً، يسيراً في قضايا اتفق الطرفان على خطوطها العامة سابقاً، كما هو الحال نسبياً في سورية، أو في موضوع تشكيل «التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب»، إلا أن ملفات أخرى معقدة من شأنها أن تشكل عوائق حقيقية في وجه «التنسيق الاستراتيجي» بين الطرفين، كما هو معلن، ومن بينها علاقة كل من الدولتين بإيران، إذ أن الجانب السعودي أكثر تطرفاً وحدّة في صدامه الإقليمي مع إيران من الجانب التركي الحذر في تعاطيه مع دولة ذات وزن إقليمي على طول الحدود معه، وتربطه معها علاقات اقتصادية متينة.

وفي سياق التعقيدات أيضاً، يبدو الخلاف حول الدعم التركي لتنظيم «الإخوان المسلمين» في ليبيا وتونس ومصر خلافاً مستمراً، ويظهر مفعوله في سورية ومصر خصوصاً، ومن المرجح تغييبه مرحلياً، لحساب الملفات الأكثر إلحاحاً.

كل ما سبق من خلافات يطرح سؤالاً مفاده: هل العلاقات المستقبلية بين البلدين قابلة للتعميق «الاستراتيجي»، أم أن الأنظمة الحاكمة في البلدين كليهما تراه استراتيجياً بغية الخروج من أزماتها الراهنة والمنتظرة؟

مصر والأحلاف الإقليمية

بالنسبة للسعودية، فإن التقارب مع تركيا، ومحاولات التقارب التركي-  المصري «المأمول» من جهة أخرى، يعد «إنجازاً استراتيجياً» لجهة محاولة عزل إيران عن باقي القوى الإقليمية في المنطقة. وإن كان الحد الأول المطلوب في إبعاد تركيا عن إقامة علاقات طبيعية مع إيران مستقبلاً هو أمر في غاية التعقيد، فإن تساؤلاً يطرح حول الحد الثاني، المتمثل في احتمالات التقارب المصري- التركي.

يبدو مؤتمر «القمة الإسلامي» المزمع عقده في أواسط شهر آذار المقبل في تركيا، بعد أن ترأسته مصر خلال العام الماضي، «فرصة سعودية» لمحاولة «تقريب وجهات النظر» بين تركيا ومصر، وفق الرؤية السعودية التي تحتاج هذا التقارب في الحد الأدنى للإقلاع بمشروع «التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب»، باعتبار مصر وتركيا هما الدولتان الفاعلتان المفترضان في مثل هذا التحالف المفترض.

غير أن حجم التوتر بين تركيا ومصر، لا سيما بعد خلع الرئيس، محمد مرسي، المدعوم تركياً، وصل إلى حدود تعقد القضية أكثر فأكثر من ناحية التطبيق، وذلك علاوة على جوهر التوجهات العامة لمصر إقليمياً ودولياً، وخصوصاً بعد التقارب مع الجانب الروسي الذي لا تستحسن مصر تعكير صفو العلاقات المتطورة معه، للدخول في أحلاف جديدة غير محسومة النتائج.