أبعد من «شارلي إيبدو»

أبعد من «شارلي إيبدو»

في زمان سحيق، عندما كان يحتدم الاحتقان الاجتماعي وتظهر بوادر عدم الرضا بين أوساط أفراد القبائل «البدائية»، وجدت زعامات تلك القبائل ملاذها الآمن من تبعات تغييرٍ محتمل: إنها سياسة التلويح بخطرٍ خارجي يهدِّد وحدة القبيلة. السياسة التي تمسد التربة لنمو العصبيات القبلية، وتؤمِّن التفافاً شعبياً واسعاً حول الحكم.

من بين العلوم التي سعت إلى استغلالها، عملت المنظومة الرأسمالية إلى الاستفادة من علم «الأنثروبولوجيا السياسية» الذي يدرس تجارب الحكم التاريخية لدى القبائل «البدائية». وفي إطار اشتغالها على تطويع الشعوب، طوَّرت الرأسمالية الفكرة البدائية حول الخطر الخارجي، لتتحول من أداة في يد الحاكم لتثبيت حكمه الداخلي، إلى أداة تستخدمها المنظومة لتطمر مشاكلها الداخلية وتسهِّل، بالإضافة إلى ذلك، خوض حروبها الخارجية التي تمهِّد لها الطريق لتصدير أزماتها الاقتصادية الناتجة عن طبيعة العلاقات الاقتصادية في النظام الرأسمالي.

الإرهاب المسلح بوابة الإرهاب السياسي

من جملة الأسئلة التي تتبادر لذهن المتلقي بعد كلِّ عملية من شاكلة هجوم «شارلي إيبدو»: لماذا يكون التعامل الأمني مع منفذي مثل تلك الهجمات الإرهابية هو القتل دائماً؟ من بين العمليات الإرهابية التي انبثقت موجتها منذ 2001 حتى اليوم ومهَّدت إلى صب لعنات الحروب على شعوب العالم، لماذا لم يجر ولو لمرة واحدة اعتقال منفذيها عوضاً عن قتلهم ودفنهم أو رميهم في البحار؟ هل تخشى أجهزة الاستخبارات الغربية من شيءٍ ما؟ ربما!

في منطق التعاطي الإعلامي والسياسي مع هجوم «شارلي إيبدو»، تبدو واضحة سياسة الحكومات المستفيدة من هذا العمل، ومحاولاتها الرامية إلى لجم الصراع الداخلي لديها، الصراع الطبقي الذي تجلى في فرنسا بشكل صارخ منذ انتفاضة عام 2005، وحراك عام 2006، وإضرابات عمال النقل في 2007. وتفشي ظاهرة البطالة عام 2014 حتى وصلت إلى أكثر من 3.5 مليون مواطن. ذلك قبيل ارتفاع الأصوات المعترضة على سياسة الاتحاد الأوروبي داخل بلدان الاتحاد ذاته.

كل هذا يبدو اليوم «ثانوياً» أمام الخطر «الخارجي» الذي يترصد بفرنسا، إنه «خطر الإسلام المتطرف الآتي من خارج التركيبة الفرنسية». حتى الخطابات الرسمية الفرنسية، المجبرة على إبداء نوع ما من الدبلوماسية، باتت توارب ترويجها هذا من خلال محاولة القول إنه «صحيح أن ليس كل الإسلام إرهابياً، لكن معظم الإرهابيين إسلاميون». هكذا، يجري إرهاب المجتمع الفرنسي، والغربي عموماً، في محاولة لقمع بوادر نهوضه ضد منظومة النهب الرأسمالي.

هولاند الصريح... ونحن المخيَّرون!

على الصعيد الخارجي، يؤمِّن هجوم «شارلي إيبدو» حريةً أوسع لحركة فرنسا في الجبهات المشتعلة حول العالم، من غرب أفريقيا إلى ليبيا، وصولاً إلى منطقة الخليج التي ستشهد وصول حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول»، بعد يومين من إعلان تنظيم «القاعدة» في اليمن مسؤوليته عن الهجوم على «شارلي إيبدو».

يتزامن ذلك كله مع إعلان الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، بشكلٍ صريح، عن أن الحاملة الفرنسية قد تشارك في عمليات عسكرية ضد «داعش» في العراق، وأن «إرسال حاملة الطائرات شارل ديغول إلى منطقة الخليج العربي هو رد الحكومة الفرنسية على الإرهابيين في حربنا المعلنة ضد الإرهاب، كما أنه يسمح لنا بامتلاك النفوذ في الساحة الدولية». إذاً، لنعيد كلام هولاند بطريقة أخرى: «هجوم شارلي إيبدو يسمح لنا بامتلاك النفوذ على الساحة الدولية»، غير أن الصفعة أتته من «الأمريكي» الذي قال له بطريقة أو بأخرى «مهلاً، أنا قائد الحملة على الإرهاب»..!

أمام هذه «الصراحة» التي يبديها هولاند، وموجات «الصراحة» الرأسمالية منذ 2001، يجري تخيير شعوب العالم، من خلال الضخ الإعلامي والسياسي الهائل، بين خيارين مرفوضين، إما «مع الغرب ضد الإرهاب» أو «مع الإرهاب ضد الغرب»، في محاولة لحرف أنظار العالم عن حقيقة الارتباط الوثيق بين الحكومات وأجهزة الاستخبارات الغربية وأداتها الضاربة في العالم: الإرهاب بأشكاله وتطويراته.