نظام دولي جديد أم الفصل الأخير للنظام الرأسمالي العالمي ؟

نظام دولي جديد أم الفصل الأخير للنظام الرأسمالي العالمي ؟

يتزايد الحديث يوما بعد آخر عن ظهور «نظام دولي جديد» للإشارة إلى تكون جغرافيا سياسية جديدة على صعيد العالم وذلك على ضوء الدور الدولي والإقليمي الفاعل والمتصاعد لعدد من الدول أبرزها دول مجموعة البريكس.  فما هو الجديد في النظام الدولي ؟  وفي أي سياق من تطور الرأسمالية يأتي هذا الجديد ؟

يستخدم تعبير «النظام الدولي» عادة للتعبير عن طابع العلاقات السياسية التي تحكم بلدان العالم بعضها ببعض و التي يحددها بشكل أساسي الدور الدولي للبلدان الكبرى. إن طابع واتجاه الدور الدولي لتلك البلدان يتحدد من جهة بوضعها الاقتصادي و السياسي الداخلي, ومن جهة أخرى بمستوى التناقضات والتوافقات ودرجة الترابط فيما بينها, الأمر الذي ينعكس بمستويات تجاذب و تناقض مماثلة في مختلف تفاصيل العلاقات السياسية الدولية وفي شتى أصقاع  العالم.

إن فهم  طابع الجغرافية السياسية الدولية الجديدة يتطلب, من بين قضايا أخرى, تفحص طابع الترابط الاقتصادي بين أهم الدول الصاعدة ودول المركز الرأسمالي أي تحديدا مستوى و طابع التناقضات والتوافقات فيما بينها, الأمر الذي يسمح بتحديد تبعات ومآلات الجغرافية السياسية الجديدة على العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية منها.

الترابط و التشابك بين دول المركز

و مجموعة دول البريكس

منذ نهايات سبعينيات القرن الفائت و بدايات الثمانينيات, خضع النموذج الاقتصادي لدول البريكس لانعطافات كبرى أدت إلى تغير طابع علاقتها مع دول الغرب الرأسمالي وزيادة وتعمق مستوى التشابك والترابط مع الأخيرة. إن النموذج الاقتصادي الذي تتبناه معظم دول البريكس, والتي تنتج 20% من الإنتاج العالمي, يقوم على حاملين اثنين :

- استقبال الاستثمارات الأجنبية المتمثلة بالشركات العابرة للقارات الباحثة عن معدلات ربح أعلى نتيجة انخفاض هذه المعدلات في دول المركز الرأسمالي تحديدا في القطاعات التي تتطلب عملياتها الإنتاجية كثافة باليد العاملة, الأمر الذي أدى إلى دخول معظم دول البريكس في شبكات الإنتاج العالمية عبر التخصص بجزء من عملية الإنتاج.

رغم أن حجم ودور الشركات العابرة للقارات في الإنتاج الوطني لدول مجموعة البريكس يتفاوت من واحدة إلى أخرى إلا أنه يشكل حصة كبيرة من إنتاجها الوطني. فعلى سبيل المثال بلغت حصة الشركات الأجنبية من مجمل المنتجات الصينية المصدرة 50.4% في عام 2005 وحصة القطاع المشترك الوطني والأجنبي 26.2%, أما حصة الشركات الوطنية العامة منها والخاصة فقد بلغت 23.4% فقط. إذا فالعملية الإنتاجية في معظم دول مجموعة البريكس ترتبط بدول المركز الرأسمالي عبر دور الشركات العابرة للقارات في اقتصاداتها.

 تخضع الشركات العابرة للقارات بتنقلات نشاطاتها من منطقة لأخرى لقانون ميل معدل الربح للانخفاض نتيجة تعقيد التركيب العضوي للرأسمال ( بسبب زيادة حصة الأجور), أي أن استمرارية هذه الاستثمارات في أي مكان غير مضمونة وغير مستدامة. فعلى سبيل المثال و حسب التقرير الصادر عن مجموعة بوسطن للاستشارات لعام 2011, فإن جاذبية الاقتصاد الصيني للاستثمارات الأجنبية في جزء مهم من فروع الإنتاج الكثيفة باليد العاملة ستبلغ نقطة انعطاف مع حلول عام 2015 لتبدأ بالانحدار بسبب ارتفاع تكاليف العمل, لدرجة يصبح فيها نقل النشاطات الإنتاجية إلى  بعض الولايات الأميركية الجنوبية أكثر ربحية (حيث إنتاجية العامل هناك تفوق بأضعاف إنتاجية العامل الصيني) من بقاء الاستثمار في الصين. ويأتي التقرير على ذكر عدة حالات يعرض من خلالها نقل عدة شركات أميركية لاستثماراتها من الصين إلى الولايات المتحدة !!

الحامل الثاني الذي يقوم عليه النموذج الاقتصادي لتلك الدول هو تصريف منتجاتها في أسواق دول المركز و تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية و دول الاتحاد الأوروبي. أي أن سير عملية الإنتاج مرتبط بحالة الطلب في دول المركز, فهل الطلب الأميركي و الأوروبي مستدام على الأمد القريب والمتوسط ؟؟

أظهرت الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت عام 2008 هشاشة هذا الطلب وعدم قابليته للاستمرار, إذ أن مصدر تمويله هو الفقاعات المالية التي يخلقها الفائض الهائل لرأسمال المالي, والتي تخضع لدورة حياة تنتهي بانفجارها الأمر الذي يؤدي إلى التراجع الكبير بالطلب. على أن الطلب الأميركي والأوروبي بحجمه الحالي لا يمكن تمويله من مصادر حقيقية بسبب ضعف الاستثمار بالقطاعات الإنتاجية نتيجة تعقيد التركيب العضوي لرأس المال هناك.

 إن أزمة الرأسمالية اليوم تتجاوز كونها أزمة تقليدية إلى كونها أزمة عميقة تطال النظام النقدي والمالي العالمي أيضا, الأمر الذي يتجلى بالمديونية الأميركية التي تجاوزت كل المستويات التاريخية من ناحية و أزمة دول منطقة اليورو من ناحية أخرى و اللتين ستنفجران في السنين القليلة القادمة الأمر الذي سيشل إمكانية خلق الطلب الأميركي و الأوروبي بالآليات السابقة.

بالمحصلة إن عوامل النمو الاقتصادي لمعظم الدول الصاعدة هي عوامل خارجية غير مستدامة, الأمر الذي يضع اليوم استمرار صعودها الاقتصادي في مهب الريح  إذا لم تقم بتحويلات جذرية بنموذجها الاقتصادي.

أين هي الدول الصاعدة

من الأزمة الرأسمالية الحالية؟

نتيجة اندلاع الأزمة الاقتصادية في دول المركز الرأسمالي أصيبت دول البريكس بانتكاسة لم تصل حد الأزمة العميقة حتى الآن. يعزى ذلك  لعوامل خارجية غير مستدامة, فجزء من ذلك الاقتصاد  شكل ملجأ لرؤوس الأموال الغربية الهاربة من اهتزازات القطاع المصرفي والمالي في دول المركز, و جزء استفاد من طفرة أسعار المواد الأولية و الطاقة (البرازيل, روسيا), و جزء آخر مثل الصين شهد توافد استثمارات أجنبية  في القطاع العقاري مما أدى إلى استعادة معدلات النمو العالية بالإضافة إلى تشكل فقاعة عقارية على وشك الانفجار حسب تقديرات الاقتصاديين. إذا, إن مجمل هذه العوامل المؤخرة لانفجار الأزمة في أهم الدول الصاعدة هي عوامل عابرة وغير مستدامة.

هل من الممكن تلافي

انفجار الأزمة في الدول الصاعدة؟

 إن حل الأزمة القادمة للاقتصادات الصاعدة من الناحية الإقتصادية البحتة يتمثل بضرورة تنشيط السوق الداخلية للاستعاضة عن طلب دول المركز. فهل تحقيق هذا التنشيط هو بالأمر اليسير ؟

إن الاستعاضة عن الطلب الخارجي بالطلب الداخلي يتطلب رفع مستويات المعيشة من خلال تغيير العلاقة بين الأجور والأرباح في تلك الدول التي تشهد مستويات عالية من التفاوت الاجتماعي.

 إن هذا الأمر يتطلب تحويل جزء مهم من الأرباح لحساب الأجور سواء بالنسبة للنشاطات الوطنية أو نشاطات الشركات العابرة للقارات.إن تحقق هذا الأمر بالنسبة لنشاطات الاستثمارات الأجنبية غيرممكن لأن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف العمل والتي تعد مستوياتها المتدنية بتلك الدول أحد أهم أسباب قدوم الاستثمارات إليها. يذكر هنا بأن نشاطات الشركات العابرة للقارات في هذه الدول هي نشاطات جزئية تقوم بجزء بسيط  من عملية الإنتاج وغالبا ما تكون القيمة المضافة التي تحققها متدنية. أما بالنسبة لتغيير العلاقة بين الأجور و الأرباح على صعيد النشاطات الاقتصادية الوطنية فإن ذلك يتطلب تغييرا بميزان القوى بين رأس المال و العمل الأمر الذي يعد مسألة سياسية بامتياز.يضاف إلى ذلك حقيقة أن الانفتاح الاقتصادي في تلك الدول أدى إلى حدوث تحولات اجتماعية في بنية جهاز الدولة والمجتمع تجلت بظهور فئات اجتماعية تعتاش على العلاقة الاقتصادية مع دول المركز مما سيؤدي إلى ممانعتها لعملية  الاستعاضة عن الطلب الخارجي بالطلب الداخلي.

بالمحصلة إن مجمل التحولات الضرورية في النموذج الاقتصادي للدول الصاعدة هي قضايا سياسية بالدرجة الأولى والتي من المرجح عدم إمكان حلحلتها قبل انفجار الأزمة الاقتصادية في تلك الدول  وتحولها لأزمة سياسية تؤدي إلى عودة وتصاعد الفاعلية السياسية لجماهيرها التي لن يكون من خيار أمامها سوى تلمس طريق الاشتراكية أثناء نضالاتها أو مواجهة احتمالات الفوضى التي ستهدد استمرارية تلك البلدان كبنى وطنية موحدة. إن تحول الأزمة السياسية إلى عملية تغيير لمصلحة شعوب تلك الدول ستفرض تسارعا دراماتيكيا بأزمة دول المركز وأزمة الرأسمالية عموما.

نظام عالمي جديد أم المشهد الأخير

لنظام عالمي مهترىء ؟

إن الدور الروسي الصيني الجديد على الصعيد الدولي والذي تبلور على ضوء الأزمة السورية يعزى من ناحية إلى عدوانية الولايات المتحدة الأميركية اتجاههما في سياق سعيها لحل أزمتها المستعصية, بالإضافة إلى وعيهما لهامش المناورة الواسع الذي يمتلكانه نتيجة تراجع الولايات المتحدة الأمريكية ونتيجة الترابط الاقتصادي العميق مع دول المركز. إن الدول الصاعدة تحرص في صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أن يتم تراجعهما الاقتصادي بالطريقة التي لا تؤدي إلى انهيار المنظومة الرأسمالية ككل وقواها الاجتماعية التي يشكلون جزءا منها. إلا انه من المرجح أن  تبؤّ تلك المحاولة بالفشل بسبب عمق الأزمة وانتشار عواملها بالطريقة التي تجعل كل انفجار يسرع  ويزيد من حدة الانفجارات التالية.

إن هذا التناقض مابين رأسمالي يسمح وسيسمح بتوسيع هامش مناورة قوى الشعوب في كل دول العالم خلال السنين القليلة القادمة الأمر الذي سيفتح الإمكانية أمام تحقيق خطوات تقدمية مهمة على الصعيد الاقتصادي والسياسي إذا ما أحسنت نسج العلاقات الاقتصادية و التحالفات السياسية الصحيحة وبالوقت السريع اللازم, فالجغرافية السياسية الحالية لن تستمر. 

إن العقد الحالي هو عقد عودة الجماهير إلى الشارع عبر العالم, عندها فقط ستخلق الإمكانية من أجل تجاوز النظام الرأسمالي العالمي المهترىء بجغرافياته السياسية المختلفة.