الدرس اللـيبي
ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

الدرس اللـيبي

عندما ثار الشعب الليبي على نظام القذافي لم يكن يدري أنه «سيهرب من تحت الدلف لتحت المزراب»، ذلك أن طريق الحرية والتخلص من القهر والفقر والاستبداد لا يمكن أن يمر عبر الناتو وأمريكا، وكيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه، فإن من يسمي نفسه بالعالم الحر والمدافع الأول عن الديمقراطية هو في واقع الأمر ليس حراً على الإطلاق، إنه عبد للمال والجشع عبر استعمار واستغلال ونهب شعوب الأرض كي ينعم وحده بالثراء والغنى وعلى باقي الشعوب أن تذهب إلى الجحيم، هذا الجحيم الذي يقوم هو بتفعيله وتصديره إلى الشعوب الأخرى تارة عبر وهم تصدير الديمقراطية وتارة عبر وهم الحفاظ على السلم العالمي باعتبار أن أمريكا اليوم تعتبر نفسها شرطي العالم الأوحد والواقع الحالي للأحداث الجارية في العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تثبت أن العالم الحر يطبق ودون تردد نظرية « المالتوسية الجديدة » من أجل هدف وحيد هو المليار الذهبي في الشمال والمليارين الخدم في الجنوب.

خطورة الدور الأميركي

إن الناظر إلى الأحداث الجارية في ليبيا اليوم وبعد مرور عام واحد على سقوط نظام القذافي يدرك خطورة مايجري فيها ودور العالم الحر وزعيمته أمريكا في هذه الأحداث، فقد ورد في آخر تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات الأمريكية « C I A  » أن  ليبيا غارقة في مستنقع أسلحة خارج السيطرة، مما يؤشر على فلتان أمني غير مسبوق، وهذه الوكالة عندما تقدم تقريراً لا تتحدث من دون غاية سواء كانت المعلومات مؤكدة أم غير مؤكدة، فهي لا شك أحد الفاعلين الأساسيين و هي ستسعى من خلال تقاريرها اليوم تفادي احتمال الوقوع في فضيحة أخرى لتستطيع تمرير مشاريعها لاحقاً خاصة بعد أن جرب العالم كذبة أسلحة الدمار الشامل لدى العراق.

 لقد شهدت ليبيا خلال اليومين الماضيين عدداً من الحوادث الأليمة المؤسفة ذهب ضحيتها عدد من الأرواح البريئة، وجرى خلالها الإعتداء بالهدم والتخريب والحرق وإتلاف العديد من الممتلكات والأوقاف والوثائق والمخطوطات التي تمثل حلقة من تاريخها، وتجد السلطات الليبية صعوبة في بسط سيطرتها على جماعات مسلحة ترفض تسليم أسلحتها، حيث تنامت هناك عمليات اختطاف واغتيالات وهجمات بالقنابل في بنغازي ثاني أكبر المدن اضطراباً في البلاد، في الوقت الذي يتم فيه استهداف الدبلوماسيين الأجانب وكذلك المواطنين الليبيين، كما أقدمت مجموعات إسلامية ليبية متشددة على هدم جزء من مسجد يضم ضريح أحد المشايخ الذين يتبرك بهم الليبيون في منطقة الشعاب بوسط العاصمة طرابلس وأغلقت قوات الشرطة الليبية الطرق المؤدية إلى المنطقة  واستخدمت المجموعة حفاراً لهدم جزء من ضريح الشعاب الدهماني القريب من وسط العاصمة طرابلس، كما قام متشددون بتفجير ضريح العالم الصوفي الذى عاش في القرن التاسع عشر، الشيخ عبد السلام الأسمر في زليتن على بعد 160 كيلومتراً شرق العاصمة التي شهدت اشتباكات دموية في وقت سابق من هذا الأسبوع وأقدم آخرون على تفجير 3 سيارات مفخخة في طرابلس ما أسفر عن مقتل شخصين وجرح 5 آخرين قبل أيام، ومحاولة اغتيال دبلوماسي مصري في مدينة بنغازي، وشهدت مدينة زليتن إشتباكات عنيفة  بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة وقذائف آر بي جي وسماع أصوات انفجارات قوية فى وسط المدينة فى منطقة السوق بين عائلتي الرسيوي وحمادي ، وقد نتج عن هذه الاشتباكات مقتل  شخصين وجرح 35 آخرين وبيَّن المتحدث باسم اللجنة الأمنية العليا التابعة للداخلية أنه «تمت مصادرة أكثر من مئة دبابة و26 قاذفة صواريخ» في ثكنة بسوق الأحد قرب ترهونة60 كلم جنوب شرق طرابلس ويشار إلى أن الأوضاع في طرابلس أيضاً غير مستقرة تماماً، ففي أوقات المساء لا يخرج السكان إلا في الحالات الطارئة.

ونتيجة لكل هذه الأحداث طالب عدد من أعضاء المؤتمر الوطني العام في ليبيا  بإقالة وزير الداخلية الليبي فوزي عبد العال من منصبه متهمينه بالتقصير في مواجهة التصعيد في أعمال العنف التي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة، وبالفعل قدم استقالته،وحسب ما أعلن مكتبه إن تقديم الاستقالة أتى احتجاجا على العبارات التي قالها أعضاء في المؤتمر الوطني بحق الثوار في اللجنة الأمنية العليا، ويأتي كذلك في ظل المطالبات بحل اللجنة الأمنية العليا والاعتماد فقط على جهاز الشرطة مشيرا إلى أن وزارته أبلت البلاء الحسن في التعامل مع الهزات الأمنية الأخيرة، مثل تفجيرات طرابلس وأحداث زليتن، وأضاف إنه لا يدري إن كانت الاستقالة قد قبلت أم لا لكنه أكد أنها بالنسبة له استقالة نهائية ولا تراجع عنها تحت أي ظرف كان.

وفي اجتماع طارىء للمؤتمر الوطني حضره أعضاء الحكومة الليبية، تم استجواب رئيس الوزراء عبد الرحيم الكيب على خلفية الأحداث، فدافع عن انجازات حكومته مؤكداً أن الأجهزة الأمنية أدت دورها في شكل فاعل ونجحت في احباط مؤامرات عدة واعتقال مسؤولين عن أعمال تخريب.

وبعد أقل من 24 ساعة من استقالة وزير الداخلية الليبي هاجم مسلحون مجهولون مديرية أمن بنغازي، في عملية لم تسفر عن وقوع ضحايا، ولم تسفر عن أية خسائر بشرية أو مادية، وتم القبض على اثنين من عناصرالمسلحين وحجز إحدى المركبات الآلية التابعة لهم.

أضف إلى كل هذه الأحداث تنامي النزعات الإنفصالية في بعض الأقاليم وخصوصاً في المنطقة الشرقية عبر دعوة بعض العشائر والقبائل الليبية إلى ضرورة انشاء الفيدرالية وكل هذا تمهيداً لتقسيم ليبيا إلى دويلات متناحرة فيما بينها ووقوع أجزاء كبرى من ترسانة الأسلحة الليبية في أيدي « الثوار »مع كل هذا الفلتان الأمني الحاصل.

أهم الاستنتاجات

ويستطيع الناظر إلى هذه الأحداث المتواترة أن يصل إلى الاستنتاجات الأربعة التالية : أولها أن هذه الأحداث وهذا الفلتان الأمني وبعد مضي عام على انتهاء نظام معمر القذافي وبعد تمكن الدولة من تشكيل مؤسساتها في انتخاب المؤتمر الوطني وتشكيل الحكومة التي تمارس دورها الآن تشير إلى خطورة أن تتحول ليبيا إلى دولة فاشلة لضعف قدرتها حتى الآن من السيطرة على الأوضاع الأمنية على أراضيها من حفظ أمن المواطنين إلى إنهاء ظاهرة استمرار وجود المجموعات المسلحة إلى ضبط أمن الحدود الليبية الطويلة مع دول الجوار وغيرها من الأمور الأمنية الأخرى، ومما لا شك فيه أن أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع عدم قدرة الحكومة على توحيد الأجهزة الأمنية، فإضافة لوزارة الداخلية والقوات التابعة لها هناك ما يسمى  اللجنة الأمنية العليا وتضم ثواراً سابقين حاربوا نظام معمر القذافي عام 2011، وتولوا مسؤولية حفظ الأمن في البلاد إثر سقوط النظام قبل الإنخراط في القوات التابعة لوزارة الداخلية و تحصر هذه اللجنة مهمتها في تصفية ما تبقى من أنصار نظام القذافي السابق ولا تهمها الواجبات الأمنية الأخرى أضف إلى ذلك وجود جماعات مسلحة بالشوارع لم تنخرط في صفوف الجيش الليبي ولم تستطع قادته من استيعابها حتى الآن والتي لم تتخل عن أسلحتها للحفاظ على حقها بالتعويضات وحق الثوارالمصابين في المعالجة على نفقة الدولة.

ثاني الاستنتاجات أن فقدان الحياة السياسية السليمة في ليبيا لفترة طويلة تجاوزت الأربعين عاماً لعب دوراً أساسيا لهذا الفلتان السائد، فاقتصارها على ما كانت تسمى بـ «اللجان الشعبية الجماهيرية » طيلة هذه الفترة إضافة لقصر الفترة الانتقالية بين النظام السابق والحالي ساهم في عدم تكون الأحزاب السياسية بشكل جدي مما أدى إلى قيام هذه القوى المسلحة بتعبئة هذا الفراغ الحاصل في الساحة السياسية.

ثالث هذه الاستنتاجات أن تشكيل ما يسمى بالمجلس الانتقالي جاء فوقياً  وليس نابعاً من أية قوى شعبية أو ثورية ، فاستفردت قيادته غير المنتخبة بالحكم وقامت بإجراء اتفاقات سياسية واقتصادية مع تلك القوى الخارجية« الناتو وأمريكا » التي تدعي دعمها ل (الثورة) الليبية حيث جاءت أهم العقود وهي عقود النفط لترتبط بعقود مجحفة بحق الاقتصاد الليبي حيث ربطت عجلته بالغرب وخصوصا فرنسا وايطاليا وبريطانيا وأمريكا أضف الى ذلك أن تنامي دور القوى السلفية وما تقوم به من تفجيرات وهدم للمساجد والأماكن التاريخية الهامة لم يأت من فراغ بل من مخططات وتوجيهات تأتي مباشرة لهذه القوى السلفية من تلك الدول وما تنظيم القاعدة إلا تنظيم أمريكي بامتياز.

رابع هذه الاستنتاجات وهو أهمها على الإطلاق أن الإستجارة بالناتو كـ «المستجير من الرمضاء بالنار» وكان الإرتماء في أحضان الخارج والسماح لقوى الناتو باستباحة أجواء وأراضي الدولة كان من الأخطاء الفادحة المرتكبة بحق الشعب الليبي الذي عانى الكثير من نظام القذافي والآن يعاني الأكثر من التدخل الأجنبي وخاصة الإنتقاص المفضوح من السيادة الوطنية والمصيبة الكبرى أن القادة الجدد في ليبيا إن كانوا لا يدرون بالمخططات المرسومة لبلادهم ولكن المصيبة تصبح أخطر إن كانوا يعرفون ومع ذلك تحالفوا مع الناتو وأمريكا ولعاب هؤلاء يسيل تجاه الثروة النفطية الليبية الهائلة فالدعوات للفيدرالية تمهيدا لتقسيم ليبيا ماهي إلا تطبيقا عمليا لنظرية قوس التوتر وهي الاستراتيجبة الأساسية للأمريكيين تجهد لتطبيقها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما إبقاء وجود الجماعات المسلحة حتى الآن إلا تطبيقاً لما بشرتنا به كونداليزا رايس وهو الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد خلال حرب تموز 2006 في لبنان .

وأخيراً لابد من القول إن الدرس الليبي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار فـ« ما حك ظهرك غير جلدك»وأن الناتو وزعيمته أمريكا لا تتدخل لمساعدة الشعوب لبياض عيونها بل إن مصالحها هي التي تحركها بصرف النظر عن الأثمان الباهظة التي تدفعها الشعوب لقاء هذا التدخل الذي يبدو بريئا لأول وهلة وكارثياً فيما بعد