تصفية عقول العراق
كان تفريغه من عقوله وعلمائه من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة ومعها «الموساد» الإسرائيلي من أجل القضاء على العراق، وجرى هذا الأمر باتجاهين، إما عبر تقديم الإغراءات لتهجير هذه العقول إلى أميركا والدول الأوروبية، أو من خلال التصفية الجسدية لمن يرفض هذه الإغراءات، ليخسر العراق خلال سنوات الحرب أكثر من 5500 عالم.
كي تكتمل أهداف الاحتلال في بلاد الرافدين، كان لا بد أيضاً من سلب ثروة لا تقلّ بأهميتها عن النفط، وهي علماء العراق،وسلب هذه الثروة تم باتجاهين: عبر الترغيب والتهجير من أجل تفريغ العراق من العقول، أو من خلال التصفية الجسدية المباشرة، وهجرة الأدمغة العراقية إلى الخارج لم تبدأ في الواقع مع الاحتلال، بل كانت قائمة قبل 2003،وفي هذا الإطار، تحتضن بريطانيا أقدم الجاليات العراقية في أوروبا والمهجر، وتظهر الإحصائيات أنّ نسبة المتعلمين من هذه الجالية عالية جداً، فنسب الشهادات الجامعية 75%، ونسبة الذين يحملون شهادات عليا هي 33% للذكور و 9% للإناث، ويوجد أكثر من ألفي طبيب يعملون في بريطانيا. وتجدر الإشارة الى أن كلفة تدريس وتخريج طالب كلية الطب في العراق تبلغ أكثر من 15 ألف دينار عراقي في السبعينيات أي نحو 45 ألف دولار،أي إن وجود أكثر من 2000 طبيب عراقي في بريطانيا كلف خزينة الدولة أكثر من 100 مليون دولار، وإن كانت الهجرة قبل الاحتلال اختيارية لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، فبعد الاحتلال كان هناك خطة ممنهجة لتفريغ العراق من كفاءاته وعقوله، وقد اعتمدت الولايات المتحدة على 3 خيارات لتنفيذ مخططها، الأول هو الخيار الألماني، ويتمثل في إفشاء المعلومات من قبل العلماء العراقيين إلى الجهات الغربية، بدأت هذه المحاولات بمشروع السيناتور جوزيف بايدن الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي في تشرين الثاني 2002، وقضى بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية بطاقة الهجرة الأميركية الخضراء، ووعدهم بآفاق بديلة أكثر إشراقا، ثم كان القرار الأممي 1441 الذي أصرت واشنطن على تضمينه بنداً يقضي باستجواب العلماء العراقيين، لكنه فشل، وبعد الاحتلال، خصصت الولايات المتحدة برنامجاً بقيمة 25 مليون دولار لتأهيل العلماء العراقيين، الذين عملوا في برامج التسلح العراقية، والهدف المعلن هو الاستفادة منهم في برامج للاستخدام السلمي للطاقة، لكن الهدف الحقيقي هو استغلال عدد كبير من هؤلاء العلماء عبر ترحيلهم إلى الولايات المتحدة وإعطائهم الجنسية الأميركية ودمجهم في مشاريع معرفية هناك، وذكر الخبير في الشؤون الإسرائيلية، عماد جاد، أن الولايات المتحدة نقلت جوا 70 من العلماء العراقيين إلى خارج العراق، ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات، أو يحولوا تلك المعلومات إلى منظمات أو دول معادية، وأسفرت هذه المغريات عن زيارة عدد من العلماء العراقيين للكيان الصهيوني، أبرزهم أستاذ علم الفيزياء النووية الدكتور طاهر لبيب، والمتخصص في مجال التكنولوجيا الدكتور محمود أبو صالح،أما الخيار الثاني، فكان ما سمي «الخيار السلفادوري»، ويتمثل في تصفية العلماء، وتُنسب التسمية الى «مجزرة السلفادور» التي أشرفت عليها «سي آي ايه» في أميركا اللاتينية لتصفية العلماء، وكشف علماء العراق مع بداية الغزو أن قوات الاحتلال كانت تحمل قوائم بأسماء العلماء العراقيين الذين وردت أسماؤهم في قوائم مفتشي الأسلحة الدوليين وعناوينهم والأبحاث التي يعملون عليها، وهو ما أدى إلى اعتقالهم أو قتلهم، ويشير العالم العراقي في مجال التكنولوجيا النووية، الدكتور نور الدين الربيعي، إلى أن «العراق فقد 5500 عالم منذ الغزو الأنجلوأمريكي في نيسان 2003، معظمهم هاجروا إلى شرق آسيا وشرق أوروبا والباقي تم اغتياله»،أما الثالث فيتمثل في الاستهداف المباشر وغير المباشر، ويقوم على فلسفة المزاوجة بين الخيارين «الألماني»، أي احتواء العلماء وإعادة توظيفهم خدمة للمصلحة الأمريكية، كما حدث مع العالم الألماني براون (بعد الحرب العالمية الثانية) وزملائه ممن قامت الولايات المتحدة بترحيلهم إلى أراضيها، والخيار «السلفادوري» القائم على تصفية من يرفض الإغراءات الأميركية، وعادةً كان العلماء والأكاديميون يتلقون تهديدات مباشرة لدفعهم إلى الهجرة قبل الإقدام على تصفيتهم، وفي هذا الإطار، تورد في شهادتها الدكتورة وفاء البياتي، الحاصلة على دكتوراه في طب وجراحة النساء، فتقول «غادرت العراق بعد اشتداد الأزمة فيه وتزايد العنف والقتل للعلماء وعلى الهوية، ولأني كنت أعمل في مستشفيين أحدهما في الأعظمية والثاني في الكرادة، إضافة إلى عيادتي في منطقة الحارثية، بات من الصعب علي التنقل بين أماكن عملي بسبب التفجيرات، إضافة إلى تعرضي لتهديد وصلني مرتين عن طريق الجوال، وكان فحوى التهديد يشير إلى تصفية قريبة خاصة بعد خطف زميلي، لذلك نصحني زملائي بترك العراق، وأنا أعتقد أن من قام بتهديدي لا يعرفني ولكنه كان يعرف درجتي العلمية، لأن هناك مخططاً لإفراغ العراق من علمائه وقتل العلم فيه»، ومخطط تصفية علماء العراق وأكاديمييه لم تعدّه وتنفذّه الولايات المتحدة بصورة أُحادية، بل جرى بالتنسيق والتعاون، بل وإرشاد وتدبير، جهاز الاستخبارات الاسرائيلي «الموساد»، وأظهرت عدة دراسات نُشرت مؤخراً تورط فرق الموت الاسرائيلية في اغتيال علماء وأكاديميي العراق ما بين 2003 و 2006، وفي تقرير أعدته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2005، كُشف عن قيام عناصر إسرائيلية وأجنبية أرسلها «الموساد» بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى العراق لاغتيال 530 عالماً عراقياً على الأقل وأكثر من 200 استاذ جامعة وشخصيات أكاديمية أخرى منذ الغزو 2003، وكانت عناصر «الموساد» هذه تعمل في العراق بقصد تصفية علماء الذرة والبيولوجيا من بين علماء آخرين وأساتذة جامعة بارزين، وذلك بعدما فشلت الولايات المتحدة في إقناع هؤلاء بالتعاون معها أو العمل في خدمتها، ونَقَلَ مركز المعلومات الفلسطيني عن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية قوله إنه «أُجبر بعض العلماء العراقيين على العمل في مراكز الأبحاث الأمريكية، وعلى أي حال الأغلبية رفضوا التعاون في بعض الحقول وهربوا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى»، ووافق البنتاغون على اقتراح الموساد بتصفية العلماء كأفضل طريقة للتخلص منهم، وتشير معلومات الى أن «الموساد» جند 2400 عنصراً، من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم. وقدّمت أجهزة الأمن الأمريكية لإسرائيل سيرة حياة كاملة للعلماء العراقيين والأكاديميين من أجل تسهيل عملية قتلهم، وتقول دراسة للأستاذ اسماعيل جليلي بعنوان «محنة الأكاديميين العراقيين»، قُدّمت الى مؤتمر مدريد الدولي في نيسان 2006، إن «الموساد» الاسرائيلي شنّ 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74% منهم، وهؤلاء موزعون بحسب التخصص، 31% علماء في العلوم، 23% في الطب، و 21% في الإنسانيات. أما في المجال العلمي فموزّعون على الشكل التالي، 33% هندسة، 14% زراعة، و 13% فيزياء، و 10%كيمياء، و 7% بيولوجيا، وبحسب المحافظات، فان نسبة الاغتيالات موزعة على الشكل التالي، 57% في بغداد، و14 % في الموصل، و6 % في النجف، ونسب أقل في الأنبار وتكريت والحلة وكربلاء وكركوك وديالى، وتلحظ الدراسة ارتفاع نسبة الاغتيالات تدريجياً منذ 2003 حتى تصل الى ذروتها في 2006. ويورد جليلي في دراسته مجموعة ملاحظات، منها أن اغتيال الأكاديميين العراقيين ظاهرة جديدة في العراق لم تحدث قبل نيسان 2003، وأن نمط القتل يكشف عن حملة وأهداف مرعبة، وأن عملية الاغتيال والخطف والتهديدات للأكاديميين والأطباء لإجبارهم على مغادرة العراق لا تتبع أي نمط طائفي.
بتصرف