مهزلة التفاوض: مَنْ يقلب طاولة الابتزاز والتنازلات؟

مهزلة التفاوض: مَنْ يقلب طاولة الابتزاز والتنازلات؟

مضى أسبوعان على «اشتباكٍ» لفظي بين طرفي المفاوضات. حاول «الوسيط !» أو الحاوي الأمريكي، ضبط مستواه والتحكم بحدود نتائجه. لكن الصلافة والوقاحة وميزان القوى على الأرض الفلسطينية، وجوارها الإقليمي، دفعت بحكومة العدو للتهرب من استحقاقِ إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى، على الرغم من تقديم الراعي الأمريكي «ضمانته» بإخراج عددٍ من المناضلين «أسرى الأراضي المحتلة عام 1948»، ضمن الدفعة الأخيرة من المعتقلين، قبل توقيع اتفاق «أوسلو» الكارثي

بررت حكومة المستعمرين خطوتها بضرورة التزام سلطة رام الله المحتلة بتمديد المفاوضات، حتى نهاية العام الحالي، مقابل إطلاق سراح الأسرى، المحذوف من تعدادهم أسرى الأراضي المحتلة عام 1948. علماً بأن لا علاقة بين المسألتين، كما قال أكثر من مسؤول في السلطة.
لم تتوقف عملية الابتزاز الصهيونية عند حدود التلاعب بموضوع الأسرى، فقد دفعت حكومة المستعمرين بالطرف الفلسطيني للدخول في «بازار» الأعداد المقترحة، للوصول إلى تسوية للموضوع. وأعلنت حكومة المحتلين عن نيتها الإفراج عن أربعمائة أسير، وجميعهم ممن قاربت محكوميتهم على الانتهاء، كبادرة «حسن نوايا»، لإقناع وفد السلطة بالموافقة على تمديد المفاوضات، الذي رد بطلب إطلاق سراح ألف معتقل ومعتقلة وطفل، مع أسماء قيادات أسيرة أبرزها: أحمد سعدات ومروان البرغوثي وفؤاد الشوبكي.
في ظل هذه التطورات، كان الوجود الأمريكي حاضراً من خلال جون كيري - اجتماعه مع عباس في عمان مؤخراً- و مارتن إنديك مع عريقات وليفني، أو بوجود أحدهم في محاولة إيجاد حلول توافقية، من خلال تقديم «رزمة/ صفقة» يمكن أن تحظى باتفاق الطرفين، ونشرت بعض وسائل الإعلام في كيان العدو بنودها قبل الوصول المفترض - ألغي لاحقاً - للوزير الأمريكي.

بولارد في الصفقة ـ المصيدة

اللافت للنظر كان في طرح الإفراج عن الجاسوس الأميركي اليهودي، جوناثان بولارد، خلال الأسبوعين المقبلين، كـ«رشوة» لحكومة نتنياهو، للإفراج عن 14 أسيراً فلسطينياً من أسرى فلسطينيي 1948، الذين سبق أن أعلنت رفضها القاطع الإفراج عنهم، ضمن الدفعة الأخيرة «26 أسيراً».
وتبلورت أبرز تفاصيل الصفقة المقترحة، كما نشرتها صحيفة «هآرتس» الصهيونية، في البنود التالية:
ـ يوافق الفلسطينيون على تمديد المفاوضات بنحو سنة، في داخل العام 2015، ويمتنعون في هذه الفترة عن خطوات أحادية الجانب في الأمم المتحدة.
ـتحرِّر الولايات المتحدة الجاسوس، جوناثان بولارد، قبل ليل الفصح.
ـ تنفِّذ «إسرائيل» النبضة الرابعة من تحرير السجناء. وتتضمن النبضة 26 سجيناً قتلوا «إسرائيليين»، 14 منهم عرب «إسرائيليون».
ـ تحرِّر «إسرائيل» 400 سجين فلسطيني آخر «بلا دم على الأيدي»، يكون تبقى لكل واحد منهم، بالمتوسط، ستة أشهر لاستكمال عقوبة السجن. وتقرِّر «إسرائيل» القائمة، وتضم ضمن آخرين نساء، قاصرين وحالات إنسانية. وفي إطار تحرير السجناء، تنظر «إسرائيل» في إمكانية تحرير مسؤول «فتح» الكبير، فؤاد الشوبكي، الذي وقف خلف تهريب السلاح في سفينة «كارين إي»، في كانون الثاني 2002.
ـ تجمد «إسرائيل» معظم البناء في المستوطنات، بالإضافة إلى شرقي القدس، وتكبح نشر العطاءات الحكومية، إقرار مخططات بناء المدن وتسويق الأراضي للمقاولين. ومع ذلك، يستمر بناء المشاريع التي سبق أن بدأت، ويستمر البناء القروي في المستوطنات الصغيرة خارج الكتل، ويستمر بناء البنى التحتية والمؤسسات العامة.
ـ تسمح «إسرائيل» بجمع شمل العائلات، لنحو خمسة آلاف فلسطيني، من الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن.
لكن تلك الاقتراحات المتداولة اصطدمت، توازياً مع المماطلة المستمرة لحكومة العدو، مع إعلان وزارة الإسكان في حكومة العدو إلى طرح عطاءات لبناء 708 وحدات استيطانية، في حي «جيلو» الاستعماري/الاستيطاني في القدس الشرقية المحتلة. مما دفع برئيس السلطة في رام الله المحتلة للإعلان عن التوقيع على مجموعة اتفاقيات خاصة بالأمم المتحدة، تتيح للسلطة التي حظيت بتاريخ 29/ 11 / 2012 باعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة، بكونها «دولة غير عضو»، وهو ما يؤهلها، أمام استكمال الانضمام لعشرات الاتفاقيات، أن تتحول لدولة تحت الاحتلال وليست «أراضٍ متنازع عليها». بعض الخبراء أشاروا إلى أن ما تم التوقيع عليه، غير ذات صلة بالصراع مع كيان العدو الاستعماري، ولا يتعلق بوضع محكمة جرائم الحرب أو الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال. بل هي طلبات للانضمام إلى مؤسسات الأمم المتحدة، الخاصة بالتمييز ضد المرأة والطفل ومكافحة الفساد والإرهاب.

إصرار على التسوية

رغم اعتبار الإعلان الذي بدا صاخباً، وحماسياً، مع تصفيق ووقوف الحاضرين «قيادات السلطة وفصائل المنظمة وآخرين»، فإن دلالة الانضمام للجهات الدولية المعنية، يجعلنا مطالبون بالتدقيق في مضامينها، ليس بغرض التقليل من «أهميتها» كما يردِّد البعض، وليس للتقليل من شأن الخطوة - المتأخرة جداً - كما يراها آخرون.
كما يبدو، فإن الخطوة جاءت كـ«ردة فعل» آنية، بهدف تشكيل أداة ضغط محدودة، لأن العبارات/المواقف التي ألحقها أبو مازن بالإعلان، تؤكِّد على أن المياه التي جرت في النهر، منذ توقيع اتفاق «أوسلو»، مازالت بنفس جريانها، رغم بعض العثرات أو العقبات.
يوضح رئيس السلطة كلامه، خوفاً من أي التباس، بقوله «مصرون على الوصول إلى تسوية، من خلال المفاوضات، ومن خلال المقاومة السلمية الشعبية، ونرفض غير ذلك». الكلام واضح لمن يحاول أن تأخذه أفكاره أو «أحلامه» لموقع آخر!. ولهذا، فقد أكَّد أكثر من مسؤول في قيادة المقاطعة برام الله المحتلة على أنهم «ملتزمون باستمرار المفاوضات، حتى نهاية موعدها المقرر في نهاية الشهر الحالي». كما أن ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، صرَّح، في مؤتمر صحفي داخل مكتبه: «نأمل تجدد مساعي جون كيري خلال الأيام المقبلة. لا نريد الفشل لجهود كيري، على العكس تماماً نريد نجاحها». مضيفاً «القيادة الفلسطينية تؤكد رغبتها في استمرار العملية السياسية، وتؤكد أنها عملية سياسية جادة ليس فيها احتيال». وهو ما يعني إبقاء الباب مفتوحاً بما يمهِّد العودة للمفاوضات، وربما التوصل لاتفاق كل الأطراف على تمديدها، إذا أنجزت بنود الصفقة أو بعض بنودها، كـ«حرية الجاسوس بولارد، في مقابل حرية الأسرى القياديين، خاصة البرغوثي»، رغم إصرار سعدات والبرغوثي على رفضهما استمرار التفاوض إذا كان الثمن إطلاق سراحهما، لأنهما وغالبية الأسرى وأبناء الشعب الفلسطيني يعلمون ما تجنيه حكومة العدو من استمرار مهزلة التفاوض.

وشهد شاهد من أهل السلطة

في قراءة موضوعية لتجربة الشهور الثمانية من عمر المفاوضات، لا تتأكد عبثيتها  فقط، إنما، وكما أكدنا مراراً، الفائدة التي توفرها لحكومة العدو. وللتأكيد على ما ألحقته العملية التفاوضية، منذ انطلاقتها في 30 يوليو/تموز وحتى 27 مارس/ آذار 2014 من كوارث، وفي هذا السياق تؤكد حنان العشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحريرنفسها الحقائق التالية:
• القتل المتعمد مع سابق الإصرار والترصد: قتلت «إسرائيل» 60 فلسطينياً، وأصابت 941 بعمليات خارجة عن القانون، واستخدمت الروايات المشوهة والمزورة لتبرير جرائم القتل.
• تصاعد وتيرة الاستيطان: ارتفعت وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية إلى أكثر من 123%، مقارنة بعام 2012. حيث تم العمل على إقامة 10.509 وحدة استيطانية جديدة، أضيف إليها المصادقة على بناء  186 وحدة استيطانية في بيت حنينا بالقدس المحتلة وجبل أبو غنيم.
• هدم المنازل: دمرّت قوات الاحتلال 149 من المنازل والممتلكات الفلسطينية.
• مداهمات واعتقالات: قامت «إسرائيل» بتنفيذ 3767 هجوماً عسكرياً،  واعتقلت ما يقرب من 3061 فلسطينياً، بما في ذلك الأطفال.
•  تشريعات ومشاريع قوانين عنصرية:
- قانون «التمثيل الطائفي»، الذي يميز بين المسيحيين والمسلمين والدروز من فلسطينيي الـ 48.
- مشروع قانون «فيجلين»، لبسط سيادة الاحتلال على المسجد الأقصى.
- تمديد قانون «المواطنة» العنصري الذي يمنع لم شمل عشرات آلاف العائلات الفلسطينية.
- تفعيل قانون «أملاك الغائبين» في القدس المحتلة، من أجل  تهويدها وتغيير الواقع الديمغرافي فيها،  ومصادرة عقارات وأملاك المقدسيين ومنحها لعائلات يهودية.
- قانون رفع نسبة الحسم لضرب التمثيل العربي في الكنيست.

قوائم طاولة المفاوضات ـ التصفية

لا يريد بعض المتحمسين لنهج «المفاوضات... حياة» التوقف عند نتائج الثمانية أشهر، ولا على وقائع مريرة حملها أكثر من عقدين من الزمن على التزام السلطة باتفاق «أوسلو». فالتصريحات القديمة/الجديدة عن ربط العودة للمفاوضات بوقف الاستيطان، وبتثبيت حدود الكيانين «4 حزيران/ يونيو1967» لا تعدو كونها محاولات إعادة «ضرب الرأس بالجدار».
إن قلب طاولة المفاوضات، لا يتم عبر ردود الفعل. لأن اتفاق «أوسلو»، بما فرضه على أرض الواقع، هو الركيزة الأساسية التي أوجدت القوائم التي ارتكزت عليها طاولة المفاوضات. فالاتفاقيات الأمنية (التنسيق والتغطية والتسهيل)، لتنفيذ جرائم الإعدام والقتل العمد للمناضلين والمقاومين، وتوفير المعلومات عن المقاتلين وملاحقتهم، ناهيك عن الخطوات الاقتصادية المتبعة، وما أحدثته على الصعد كافة، وما عكسته على الوضع الاجتماعي.
إن الإطاحة بهذه المرتكزات هي الطريق الذي يجب أن يسير عليه كل التواقين لحرية وطنهم، وسيادة وكرامة شعبهم، الذين مازالوا مقتنعين بأن «المقاومة... حياة».