الحدائق العامة والعجز المقصود الذي يؤدي للتفريط بها!

الحدائق العامة والعجز المقصود الذي يؤدي للتفريط بها!

ظهرت بدعة استثمارية جديدة من بدع محافظة دمشق لأحد المحظيين، والمستهدف منها هذه المرة هي حديقة الطلائع في منطقة المزة بدمشق!
حيث نقلت إذاعة المدينة إف إم عن مصدر في محافظة دمشق بتاريخ 19/3/2024 قوله: «منح استثمار إعادة تأهيل حديقة الطلائع بالمزة، على أن تضم ملعب كرة قدم وبعض الأنشطة الاقتصادية البسيطة».

تفاصيل التفريط وذرائعه!

بعد الخبر المنقول عبر إذاعة المدينة أعلاه، كشف مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور في تصريح لموقع أثر برس بتاريخ 23/3/2024 أن جزءاً من حديقة الطلائع في منطقة المزة سيتم استثماره، وذلك بعد أن بقيت الحديقة المذكورة دون استثمار منذ 14 عاماً.
ويضيف مدير الحدائق قائلاً: «تم وضع الحديقة تحت الاستثمار من قبل مستثمر عرض علينا أن يقوم باستثمار جزء منها، أي بمساحة تتجاوز 5% (المساحة الكلية للحديقة 35 دونم) عن طريق تصميم ملعب لكرة القدم بمساحة معينة؛ مقابل أن يؤهلها بعرض فني بمبلغ ملياري ليرة، ومقابل ذلك تمنحه المحافظة خدمات هذا الملعب»، لافتاً إلى أن المستثمر حصل على الموافقات اللازمة من المكتب التنفيذي للمحافظة.
وعن المبررات والذرائع أوضح مدير الحدائق أن إعادة تأهيل الحديقة كان يحتاج إلى ميزانية ضخمة، مضيفاً: لذلك ارتأينا أنه من الأجدى وضعها في الاستثمار!
الحديث الرسمي أعلاه يُظهر المشكلة وكأنها ببقاء الحديقة دون استثمار لمدة 14 عاماً، وليس بتقاعس المحافظة طيلة هذه المدة، ومسؤوليتها المباشرة عما آلت إليه الحديقة من إهمال مقصود!
أما عن الميزانية الضخمة لإعادة تأهيل الحديقة كذريعة فتسقط لقاء المبلغ المصرح به، والبالغ 2 مليار ليرة لهذه الغاية، بحسب العرض الفني المذكور على لسان مدير الحدائق أعلاه!
أما الكارثة المفتوحة على الجحيم بهذا الاستثمار القادم فهي أنه لن يقف عند اقتطاع مساحة من الحديقة لإنشاء ملعب كرة قدم فيها فقط، بل أيضاً في الأنشطة الاقتصادية الإضافية «البسيطة» التي ستقطع أجزاء إضافية من الحديقة لمصلحة الاستثمار!
فالخطوة الاستثمارية الجديدة هي استكمال لإهمال الحدائق العامة في دمشق الممتد لأكثر من عقدين، سيراً نحو إنهاء دورها كمتنفسات مجانية لعامة الناس، بغالبيتهم المفقرة خاصة!
فالزائر لهذه الحدائق يلاحظ مظاهر هذا الإهمال بشكل لا يوجد أوضح منه (من انعدام المزروعات في المساحات الواسعة منها والمخصصة لهذه الغاية، وعدم ترميم أصولها كالممرات والمقاعد وألعاب الأطفال... إلخ)، لتلجأ المحافظة إلى الحل الأسهل والمعتاد عبر التضحية بهذه المرافق من خلال طرحها للاستثمار الخاص بذريعة التمويل والتكلفة، متهربة من دورها وواجباتها في الحفاظ عليها كمتنفسات للمواطنين، ولتنهي بذلك حتى دور الدولة المفترض من وجود هذه المرافق وأهميتها الاجتماعية والبيئية!

ليس الأول ولن يكون الأخير!

تفريط محافظة دمشق بالملكيات العامة، ومتنفسات العاصمة المتمثلة بالحدائق العامة، عبر بوابات الاستثمار الخاص، ليس جديداً!
فبذريعة التمويل والبحث عن مصادر للإيرادات طرحت الكثير من المشاريع الاستثمارية على الملكيات العامة، اعتباراً من المرائب الطابقية في الحدائق العامة، واقتطاع أجزاء منها لإقامة منشآت إطعام أو مدن مَلاهٍ وكافيهات فيها، مروراً بالمواقف المأجورة، إلى عربات الأطعمة المرخصة، وجزء من الأرصفة أمام بعض المطاعم والكافيهات، وليس انتهاء بإشغالات مولدات الأمبير!
وقد سبق لقاسيون في عام 2016 أن نشرت مادة تحت عنوان «تَعَدٍّ مقونن على الملكية العامة»، ومما ورد فيها ما يلي: «لم تقتصر التداعيات السلبية من دخول المستثمرين إلى الحدائق العامة على رواد هذه الحدائق من المواطنين وخاصة الأطفال، أو التعدي على الملكية العامة فقط، بل تعّدتها إلى الإضرار والإزعاج للوسط المحيط بالحديقة، وخاصة القاطنين بالقرب من هذه الحدائق والمطلين عليها من شرفاتهم، حيث لم يعد هؤلاء يهنؤون بأي نوع من الهدوء، بظل الصخب المتعالي من أصوات مكبرات الصوت التي عكف المستثمرون على وضعها في الحدائق للترويج لاستثماراتهم، وانتشار الكراسي والطاولات على المساحات الخضراء التي كانت مصدر هدوء ومتعة وسرور للناظرين، ناهيك عن أضرار نفث الأدخنة من «الأراكيل» التي زاد انتشار استهلاكها في هذه الحدائق».

دور الدولة المفترض!

من المفروغ منه أن الأمر يختلف، عندما تقوم الدولة بإدارة المرافق العامة وتُحسِنُ استثمارَها بنفسها مباشرة، وبما يحقق الغاية المفترضة منها، عن قيام القطاع الخاص ورأس المال الاستثماري بذلك!
فدور الدولة المفترض في أحد جوانبه هو الرعاية الاجتماعية والمحافظة على هذه المرافق، الحدائق العامة هنا، لتكون متاحة لعموم الناس بخدماتها وبطبيعتها وبيئتها، وبملاعبها المخصصة للأطفال، بلا تكاليف، أو بتكاليف رمزية على أقل تقدير لبعض الخدمات فقط، بعيداً عن الغايات الربحية الضيقة، وذلك على العكس تماماً من مصالح وغايات رأس المال الاستثماري الخاص، الذي لا يهمه سوى كمّ الأرباح الذي سيجنيه، بعيداً عن أي معيار اجتماعي أو بيئي مرتبط بالطبيعة، وضمناً طبعاً أي معيار له علاقة بقدرة المفقرين!
فاستمرار التفريط بمنشآت الدولة ومرافقها العامة من خلال عرضها وتعهيدها للاستثمار الخاص تباعاً، يعني السير نحو استكمال تقويض وإنهاء ما تبقى من أدوار ومهام للدولة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً وسياسياً!

التفريط بالفسحات الروحية بعد القضاء على الفسحات المادية!

أصبحت الحدائق العامة، وخاصة خلال السنين الماضية بقهرها وصعوباتها، ملجأ لكثير من السوريين المفقرين ومحدودي الدخل، حيث باتت تشهد حضوراً شعبياً كثيفاً، فالمساحات الخضراء فيها، أو ما تبقى منها، توفر فسحة روحية لعموم المفقرين وآلاف الهاربين من صعوبات واقعهم ومتاعب حياتهم اللحظية، في ظل انعدام الفسحات المادية أمامهم!
فالذهاب لهذه الحدائق مجاني ولا يرهق جيوب المفقرين، وذلك في ظل عدم قدرة هؤلاء على الإنفاق في المقاهي والمطاعم ومدن الملاهي المخصصة للنخبة من الأثرياء، إضافة إلى معاناتهم من فحش غلاء المعيشة ورعب محدودية الدخل –أو انعدامه بهذه الظروف القاسية والمريرة عليهم– لتصبح هذه الحدائق الملجأ شبه الوحيد لعامة الناس من الغالبية المفقرة.
فالغاية من إعادة تأهيل هذه الحديقة أو تلك من المرافق العامة، هو أن هذه المرافق –حديقة الطلائع في موضوعنا– نتيجة الإهمال الطويل المتعمد، أصبحت لا تلبي الغاية من وجودها، وهو أمر ملموس وفاقع، وبالتالي لا بد من إعادة تأهيلها من أجل أن يتناسب وجودها كمرفق عام مع متطلبات وغايات روادها من عامة الناس كما يفترض!
إلا أن هذه العملية على أيدي محافظة دمشق تأتي على نحو مختلف، وتحديداً إعادة تأهيل حديقة الطلائع العامة في المزة عبر المشاريع الاستثمارية الخاصة من أجل نسف الغاية الأساسية من وجودها، عبر اقتطاع مساحة واسعة منها لإنشاء ملعب كرة قدم لخدمة الاستثمار الخاص، بدلاً من إعادة تأهيل الملاعب المخصصة للأطفال الموجودة فيها من الأساس، إضافة إلى ذلك فإن المساحة المتبقية سيتم استثمارها أيضاً ببعض الأنشطة الاقتصادية (البسيطة)!
فبعد أن تم القضاء على مقومات الحياة المادية للغالبية المفقرة، يتم استكمال ذلك بالقضاء على ما تبقى من فسحات ومتنفسات روحية لها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1167
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 10:27